* كتب/ عطية الأوجلي،
لم تكن السنوسية مجرد طريقة دينية… فما أكثر الطرق الدينية ببلادنا وبشمال أفريقيا… ولكنها كانت حركة “إصلاحية تجديدية” استلهمت رؤاها من تعاليم الإسلام السمحاء، ومن سيرة الرسول ومنهاج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والتأليف بين قلوب الناس بالكلمة والعمل والقدوة…. لم يحمل مؤسسها محمد بن علي السنوسي “السيف” قط. ولم يستعمل القوة لحث الناس على العودة إلى تعاليم الدين الحنيف…
استطاع ببراعة وبروح مثابرة و”بإخلاص وتفان” نادرين أن يجعل من منطقة برقة “منطقة آمنة” بعدما سادتها الحروب والنزاعات قبل قدومه. واستطاع أن يوظف كل الطاقات من حوله إلى خدمة الأهداف السامية دونما تعصب أو انحياز…. كان رحمه الله رجلا عمليا ميدانيا…
وعند وفاته استلم القيادة من بعده السيد محمد المهدي.. الذي امتد تأثير السنوسية في عهده إلى دواخل افريقيا.. وشهدت صحارى البلاد التي كانت تمثل طريق القوافل والتجارة ومصدر الثراء آنذاك شهدت “أمنا وأمانا” لم تره منذ قرون… حتى أن أحد الرحالة كتب متعجبا.. “كيف يستطيع هذا الرجل أن يتحكم في الطريق من الجغبوب حتى غدامس بكلمة فقط.. دون أن يمتشق الحسام..؟”… وكان الرحالة يشير إلى المهابة التي يتمتع بها المهدي بحيث تكفي كلمته فقط ليطاع أمره.
وكان ثالث القادة لهذه الطريقة هو الشخصية الاستثنائية السيد أحمد الشريف الذي جمع ما بين القيادة الدينية والعسكرية والسياسية… والذي تجسدت في سيرته قيم النضال والإصرار والصبر الجميل… ولكن “العواصف” التي هزت العالم الإسلامي آنذاك كانت “أكبر” من قدراته فاضطر إلى الانسحاب نحو النمسا ثم تركيا وأخيرا السعودية حيث توفى ودفن هناك…
وتولى السيد ادريس الزعامة لأرض “محتلة” و”شعب منهك فقير منقسم على نفسه:…. ودول كبرى “تتنازع” النفوذ عليه… تولاها في أحلك الظروف عقب أن تخلت تركيا عن ليبيا بعد أن ورطتها في حرب على الجبهة المصرية تمكن الانجليز فيها من إلحاق هزيمة قاسية بالمجاهدين الليبيين… وفي ظل “حصار ومجاعة نتيجة الجفاف والاقتتال” استطاع “بصبر ومثابرة” من أن يعيد صياغة أهداف حركة الجهاد ومن أن يقود السفينة… رغم “الانقسامات الشهيرة والمزمنة لأبناء ليبيا”.. إلى شاطئ الاستقلال…
وتمكن أيضا من بناء دولة “دستورية” بمؤسساتها في زمن كان “الدستور” يبدو لشعوب الشرق حلما بعيد المنال… وقاد “نهضة سياسية واقتصادية وتعليمية” مميزة لازالنا نحصد بعضا من بقاياها.
لم ينزلق رحمه الله في مغامرات خارجية رغم الضغوط الدولية.. ولم يسع إلى “المجد الشخصي” أو “الثراء الفاحش” ولم “يسلط أفراد عائلته على أقدار الليبيين وأرزاقهم”…. واستطاع بحنكة وإصرار وتبصر.. ان يقود هذا الشعب رغم كل الصعوبات والتحديات إلى الاستقلال وإلى دولة عصرية بمؤسساتها ودستورها… لازلنا نكتشف كل يوم حقائق مذهلة عنها..
رحمك الله أيها الشيخ الجليل وأعاننا على أن نفيك جزءا من حقك ميتا بعد أن عجزنا عن ذلك في حياتك.