اخبارالرئيسيةثقافة

مكتبة المائة عام في النرويج

 

في عالم الفن والأدب، تبرز مبادرة “مكتبة المستقبل” كمشروع فريد من نوعه. مشروعٌ طموحٌ انطلق في العام 2014، على أن يستمر قرناً من الزمن، يكوِّن خلالها كبسولةً زمنيةً أدبيّةً تجمع نتاجَ خيرة الكُتّاب، لتكشف العاصمة النرويجية، أوسلو، النقابَ عنها في العام 2114، شرطَ أن تجتاز تحدّيات التغيّرات البيئية والمجتمعية.

بسيره المستمرّ أبداً، يؤثِّر الزمن على ثقافاتنا ومعارفنا وحكاياتنا وتجربتنا الإنسانية الجماعية. وفي عصرٍ غالباً ما يطغى فيه الإشباع الآنيُّ والنتائج السريعة على التفكير بعيد المدى، تزداد صعوبةُ النظر إلى ما بعد حيواتنا، ويُلِحُّ السؤال عمَّا سنتركه للأجيال القادمة.

يبدو أنَّ مفهوم عصر السرعة جعلَ الناس غير مستعدّين للاستثمار في المستقبل أو غافلين عن دورهم في ترك بيئةٍ صالحةٍ للعيش لمن سيأتون بعدهم، فيؤذون الكوكب ويطيلون أمدَ تغيّر المناخ. بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض القناعات المتشائمة التي قد تترسّخ لدى الأفراد وضمن المجتمعات، قناعات تقول بضياع الأمل والإيمان بالإنسانية، وبأن الاحتكار والأنانية لن تترك لِمَن لم يولدوا بعد سوى النفايات والتلوّث ومخلّفات الحروب.

ولأنّ ثمّة دائماً من يفكّر خارج الصندوق، فقد التقى فنّانون من عدة دولٍ أبرزُها اسكتلندا، ونحتوا فكرةً أسمَوها “مكتبة المستقبل”، لتلتقطَها مكتبة العاصمة النرويجية، أوسلو، وتتبنّاها كرؤيةٍ ومسعى إنسانيٍّ أصيلٍ ومبتكَر، وتجعلها مبادرةً تتشارك فيها العديد من المنظّمات الثقافية والمؤسسات الحكومية.

انطلقَ المشروع في العام 2014، على أن يُبنى بتأنٍّ على مدى مئة عامٍ كاملة، ليتلقّاه جمهورُه– الذي لم يولَد بعد– في العام 2114. آنذاك، سيكون النتاج مكتبةً تضمُّ أعمالاً أدبيةً لكتّاب بارزين ومشهورين، أعمالاً لم تُبصر النور بعد، وكذلك بعضُ مؤلّفيها.

سيجري تكليفُ هؤلاء الكتّاب بإعداد مخطوطاتٍ ومشاركتِها من مختلف أنحاء العالم. ولضمان طول عمر هذه المخطوطات، ستُحفَظ في أدراجٍ زجاجيةٍ داخلَ الغرفة الصامتة بمكتبة أوسلو العامة.

بالنسبة لجيلنا، ستقتصر المعلومات التي سيُكشَف عنها، على عنوان كلِّ مخطوطةٍ واسمِ مؤلِّفها وسنة كتابتها، ولا شيءَ أكثر. أمّا عن طباعتِها، فستكون على أوراقٍ ستُصنَع من لحاء ألفِ شجرةٍ تخضِّر غابةً على تخوم أوسلو، لكنّ هذه الأشجار، كغيرها من عناصر الفكرة، ليست موجودةً بالكامل حتى الآن، فهي تُزرع اليومَ بالتدريج، لتنمو مع الزمن.

تولّى صندوق مكتبة المستقبل والهيئات الحكومية في أوسلو مسؤولية المشروع، ما يوفر الحماية القانونية ضد التهديدات المحتملة، متفائلين بالوتيرة المتسارعة للنشاط البيئيّ وقدرتها على دعم إنجاز المشروع، حيث تُبذل جهود مكثَّفةٌ للرصد والتخطيط البيئي لحماية الموقع الثقافي ورعايته من خلال إدارة الخبراء.

في حين يسعى هذا المشروع إلى التأكيد على أهمية الزمن وتأثيره على الحضارة الإنسانية، فهو سيواجه العديد من التحديات. حيث يمكن لطيفٍ واسعٍ من الأفراد والمنظّمات والعوامل غير المتوقّعة أن تعرّض المخطوطات أو الغابةَ أو المشروعَ نفسَه للخطر، ناهيك عن تغيّر المناخ والاحتباس الحراريّ اللذين يفرضان تهديداتٍ عديدةً على نمو الأشجار وصحتها وعمرها.

كما أنَّ إقناعَ السلطات العامة والمنظمات الثقافية وأصحاب المصلحة الآخرين بالالتزام بمشروعٍ يمتد لقرن من الزمان كان تحدياً كبيراً آخر. فقد تطلّب الأمر تخطيطاً مكثفاً لتأمين التمويل وإنشاء إطار عمل من شأنه أن يستمر إلى ما بعد حياة المبادرين.

بالإضافة إلى ذلك، يُعوِّلُ المشروع كثيراً على الأجيال القادمة، كتّاباً وقرّاءً وبيئيّين، لكنّ المراهنة على المجتمعات دائماً ما تكون مقلقة، وهذا ينطبق على مجتمع اليوم كما على المجتمعات المستقبلية، فالتغيرات الثقافية أو التكنولوجية أو المجتمعية قد تجعل المشروع أقل أهمية، فهل نضمن أن تدرك الأجيالُ القادمةُ قيمةَ المشروع كما يدركها صنّاعه؟

لهذا، كان لا بدّ للمشروع من إثبات القدرة على النمو والتطوّر، عبر خطواتٍ مثل اختيار المؤلفين لكلِّ عامٍ وتنظيم الحفل السنوي.

تزداد حساسية هذه التحدّيات إذا تعمّقنا في فكرة اعتماد المشروع على كتبٍ لم يقرأها أحدٌ قط، ولن يراها جيلُنا أبداً، وحصرِها ضمن مكانٍ واحدٍ لا يمكن لأحدٍ دخولُه قبل مئة عام. فمن البديهيّ أنّ تأخر وصول الجمهور إلى النصوص قد يحدُّ من تأثيرها الثقافيّ المباشر.

هذه الفكرة في حدِّ ذاتِها قد تجعل محتويات “مكتبة المستقبل” عرضةً للتسريب والسرقة، إذ يمكن لحادثةٍ واحدةٍ من هذا النوع أن تقتل الفكرة التي يحاول المشروع إيصالَها.

أمامَ كلِّ هذه التحدّيات، يجيب أصحاب المبادرة بأنّ الحلّ هو الثقة والأمل بالإنسانية وتحلّينا جميعاً بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة. ويشرحون أنّ هدفَ المشروع الأساسيّ هو التشجيع على الصبر والعطاء والتطلّعات بعيدة المدى، وتقديم شيء للمستقبل دون الانتقاص من الحاضر.

ومع مرور الوقت، تشكّلت فئةٌ تدعم المشروع وتخفّف حدّة الآراء على المدى الطويل. وقد ساهم حصرُ المشروع بالمؤلّفين المرموقين في نجاحه واكتسابه للثقة والقبول، حتّى أنّ سرّية محتوى المخطوطات ستحافظ على الفضول والمحادثات النشطة حول العالم.

لقد استطاعت المبادرة إثارة مناقشاتٍ عالميّةٍ حول قيمة الأدب والفنّ الأقوى من الزمن، وأكّدت أهمّية الصبر والثقة بالمستقبل والجيل القادم.

 

 

https://ibtekr.org/cases/the-one-hundred-year-library-in-norway/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى