الناس-
في أكتوبر 1951 أنشئت في ليبيا “لجنة النقد الليبي” لتبدأ في ضرب وطباعة العملة الليبية وطرحها للتداول باسم “الجنيه”، لينشأ بعدها “البنك الوطني الليبي” بموجب القانون رقم (30) لسنة، 1955 الذي نص على أن يكون للبنك مقرّين رئيسيين في بنغازي وطرابلس، ويدار بواسطة مجلس مكون من: محافظ ونائب له “يعين كل منهما بمرسوم ملكي بناء على عرض من وزير المالية وموافقة مجلس الوزراء” إضافة إلى خمسة أعضاء “يعينون بقرار من مجلس الوزراء بناء على عرض وزير المالية”، ويُضاف إليهم العضو الذي قد يُنتخب من بين عدد من الشخاص يرشحهم المساهمون في حال ما أجري اكتتاب عام بجزء من رأس مال المصرف، على أن تكون مدة العضوية ثلاث سنوات.
في فبراير 1963 أصدر قانون البنوك رقم (4) لتصبح تسمية البنك الوطني الليبي هي: “بنك ليبيا”، وأن يكون مقره الرئيسي طرابلس، وأعيد تشكيل إدارته لتتكون من محافظ ونائب محافظ وستة أعضاء، يكون من بينهم ممثل لوزارة المالية، يشغلون الوظيفة لمدة ثلاث سنوات.
تبدل اسم “بنك ليبيا” إلى “مصرف ليبيا المركزي” بموجب القانون رقم (1) لسنة 1993 للمصارف والنقد والائتمان، ونص على أن يدير المصرف لجنة مكونة من: محافظ، ونائب، يعينون من قبل مؤتمر الشعب العام (السلطة التشريعية) لمدة خمس سنوات، ووكيل أمانة (وزارة) التخطيط والتجارة والمالية، مع خمسة أعضاء في مجالات القانون والمالية أو الاقتصادية أو المصرفية، يعينون بقرار من اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء) بعد التشاور مع المحافظ لمدة ثلاث سنوات.
عام 2005 صدر القانون رقم (1) بشأن المصارف، أبقى على ذات الآلية في اختيار مجلس إدارة المصرف، إلا أنه نقل اختصاص تعيين أعضاء المجلس إلى أمانة مؤتمر الشعب العام (رئاسة السلطة التشريعية) بالتشاور مع المحافظ.
ومنذ تأسيسه وحتى عام 2011 تناوب على منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي ثلاثة عشر محافظا، أولهم “علي العنيزي” وآخرهم “فرحات بن قدارة”.
مع اندلاع ثورة فبراير عام 2011 كان “بن قدارة” محافظا للمصرف المركزي، قبل أن ينشق عن نظام القذافي مطلع مارس 2011، ويكلف بديلا عنه “عبد الحفيظ الزليتني” أولا، ثم “محمد الزروق” الذي بقي في منصبه حتى تحرير طرابلس في أغسطس من ذات العام.
في 12 سبتمبر 2011 عُيّن “الصديق الكبير” محافظا للمركزي من قبل “المجلس الوطني الانتقالي” ومعه “علي الحبري” نائبا، وخمسة أعضاء بمجلس الإدارة هم: “طارق المقريف ومراجع غيث، ومحمد المختار، وعبدالرحمن هابيل، وحمودة الأسود”، وبموجب القانون يفترض أن تستمر ولايتهم خمس سنوات.
عام 2012 عدلت بعض أحكام القانون رقم (1) لسنة 2005 بشأن المصارف، حيث نص على أنه إضافة للمحافظ ونائبه، فإن عضوية مجلس الإدارة تتألف من: وكيل وزارة المالية، وستة أعضاء في مجالات القانون والمالية والمصارف والاقتصاد وتقنية المعلومات.
استقرت أوضاع المصرف المركزي الإدارية حتى عام 2014، حيث انتخب في يونيو “مجلس النواب” كسلطة تشريعية تنتقل لها السلطة من “المؤتمر الوطني العام” الذي انتخب عام 2012، إلا أن المحكمة العليا في نوفمبر 2011، أبطلت انتخابات “مجلس النواب”، ليكون ذلك بداية الانقسام المؤسساتي؛ عندما رفض “مجلس النواب” الاعتراف بحكم المحكمة، واتخذ من مدينة طبرق أقصى الشرق الليبي مقرا له، فيما بقي “المؤتمر الوطني العام” يزاول مهامه بالعاصمة طرابلس.
هذا الانقسام في المؤسسة التشريعية تبعه انقسام في السلطة التنفيذية، وذلك بحكومة مؤقتة تابعة “للنواب”، وحكومة انقاذ اختارها “المؤتمر”.
على صعيد المصرف المركزي أصدر “مجلس النواب” قرارا في 14 سبتمبر 2014 يقضي بإقالة “الكبير” وتكليف “الحبري” بصفته نائب المحافظ (للقيام بأعمال ومهام واختصاصات محافظ مصرف ليبيا المركزي إلى حين اختيار محافظ جديد).
قرار “النواب” بإقالته لم يعترف به “الكبير” ولا المؤسسات القائمة في طرابلس، بل وحتى خارجيا بقي “الكبير” محافظ مصرف ليبيا المركزي المعترف به، في المقابل أسس “الحبري” ومن ورائه “النواب” مصرفا موازيا في مدينة البيضاء شرق ليبيا.
بدأت الأمم المتحدة عبر مبعوثيها إلى ليبيا في رعاية حوار سياسي بين الأطراف الليبية ممثلة في “مجلس النواب” و”المؤتمر الوطني العام” توج في 17 ديسمبر 2015 بتوقيع ما عرف باتفاق الصخيرات الذي أنتج مشهدا سياسيا جديدا تمثل في “المجلس الأعلى للدولة” بديلا عن “المؤتمر الوطني العام” ومؤسسة تنفيذية هي “حكومة الوفاق الوطني” فيما بقي “مجلس النواب” كما هو عليه مع التحاق من كانوا مقاطعين له.
نص اتفاق الصخيرات على أن يتم تعيين شاغلي المناصب السيادية ومنها محافظ مصرف ليبيا المركزي بالتشاور بين مجلسي “النواب” و”الدولة” بعد ثلاثين يوما من توقيع الاتفاق بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب، إلا أن الاتفاق السياسي برمته تعرقل؛ ليستمر المصرفان المركزيان في أداء مهامها، “الكبير” في طرابلس يعترف بـ”حكومة الوفاق” و”مجلس الدولة”، و”الحبري” في البيضاء يتعامل مع “الحكومة المؤقتة” و”مجلس النواب”.
بقي “الحبري” يمارس مهامه كمحافظ لمصرف ليبيا المركزي في مدينة البيضاء حتى تاريخ 22 يناير 2018 يوم أصدر “مجلس النواب” قرارا بتكليف “محمد الشكري” محافظا للمصرف المركزي، وأشار إلى أن القرار يعمل به من تاريخ إقراره في 19 ديسمبر 2017، إلا أن “الشكري” لم يستلم مهامه وبقي “الحبري” في مدينة البيضاء -شرق ليبيا- نائبا للمحافظ يمارس مهام “الكبير” محافظ مصرف ليبيا المركزي بطرابلس.
في أبريل من عام 2019 شنت قوات “حفتر” هجوما عسكريا على طرابلس، مؤيدة من طرف “مجلس النواب”، لتواجه القوات التابعة لـ”حكومة الوفاق” مدعومة من قبل “مجلس الدولة”، واستمرت الحرب بين الطرفين حتى إفشال الهجوم وانسحاب قوات “حفتر” لمراكزها السابقة شرق ليبيا بتاريخ مايو 2020.
أواخر عام 2020 قادت البعثة الأممية حوارا سياسيا جديدا بين الأطراف الليبية، انتهى إلى تشكيل لجنة مكونة من 75 شخصية ليبية انتخبت في فبراير 2021 سلطة تنفيذية مكونة من أربع شخصيات هم (محمد المنفي) رئيسا للمجلس الرئاسي، ومعه عضوان هما (موسى الكوني) و(عبد الله اللافي)، إضافة إلى (عبد الحميد الدبيبة) رئيسا للحكومة.
في مارس 2021 صوت “مجلس النواب” بالموافقة على التشكيلة الحكومية المقترحة من “الدبيبة” على أن تجرى انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر 2021، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
على مستوى المصرف المركزي بقي الانقسام قائما، وساند “الكبير” الرئاسي والحكومة الجديدين، وبقي “الحبري” في البيضاء يزاول مهامه إلى تاريخ نوفمبر 2022 حين صوت “مجلس النواب” على إقالة “الحبري” من منصبة كنائب للمحافظ وتعيين “مرعي البرعصي” بديلا له كنائب، مع القيام بمهام المحافظ “بشكل مؤقت” إلى حين استلام “الشكري” مهامه.
المنعرج الأهم في الأحداث الأخيرة كان قرارا أصدرته “هيئة مجلس النواب” حمل الرقم 25 لسنة 2023 كلف بموجبه “الكبير” محافظا لمصرف ليبيا المركزي، و”البرعصي” نائبا له، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، تقارب فيها العدوان السابقان “الكبير” و”النواب”، وتصارع الصديقان السابقان “الكبير” و”الدبيبة”.
هذا الفصل الجديد وصل في محطته الأخيرة إلى إصدار قرار من “الرئاسي” بتاريخ 13 أغسطس 2024 يقضي بتعيين “الشكري” محافظا لمصرف ليبيا المركزي، ألحق في ذات اليوم بقرار سمى فيه “الرئاسي” نائبين للمحافظ هما “البرعصي” و”عبد الفتاح غفار”، وستة أعضاء هم ” وكيل وزارة المالية، وفتحي المجبري، وأبوبكر الجفال، وفاخر بوفرنة، ووسام الكيلاني، وحسين الشيخ”.
وقد استند قرار “الرئاسي” على قرارين سابقين لـ “مجلس النواب”، هما قرار إقالة “الكبير” عام 2014، وقرار تعيين “الشكري” محافظ عام 2018.
بعد قرار الإطاحة “بالكبير” بثلاثة أيام أصدرت “هيئة رئاسة مجلس النواب” قرارها يوم 15 أغسطس نصت في مادته الأولى على إيقاف القرار السابق بشأن تعيين “الشكري” محافظا؛ معللة ذلك بمضي مدة تكليفه دون مباشرته لمهام عمله، وقضت المادة الثانية باستمرار قرار هيئة “مجلس النواب” السابق بشأن تعيين “الكبير” محافظا و”البرعصي” نائبا.
يوم 23 أغسطس أدرج “الشكري” منشورا بصفحته على فيسبوك اعتذر فيه عن قبول قرار “الرئاسي” بتعيينه محافظ، مشترطا أن “يكون هناك توافق من الجهتين التشريعيتين المختصتين مجلسي النواب والدولة”، من جانبه رد ” الرئاسي” على اعتذار “الشكري” بكتاب يبلغه فيه بأن قرار تكليفه الصادر عن “البرلمان” عام 2018 لازال ساريا، مجددا الدعوة له للالتحاق بالعمل بمقر المصرف المركزي “سريعا” بالتعاون مع “مجلس الإدارة الذي يتمتع بكفاءات مهنية عالية، ويعبر عن توافق واسع”.
لم يلتحق “الشكري” ولا “البرعصي”، ورفض “الكبير” التسليم وغادر البلاد، فيما كلف “الرئاسي” نائب المحافظ “غفار” باستلام المصرف المركزي، و”القيام بمهام المحافظ مؤقتا وتسيير العمل إلى حين عودة المحافظ ومباشرة عمله أو انتخاب محافظ”، وهو ما نفذه “غفار” الذي استلم مقر المصرف يوم 26 أغسطس 2024.
أما “مجلس الدولة” الذي انقسم في آخر انتخابات على رئاسته بين “المشري” و”تكالة” فإن الأول وقف مباشرة ضد قرار الإطاحة بـ”الكبير”، معتبرا قرار “الرئاسي” منعدما، وأن الاختصاص ينعقد بالتوافق بين مجلسي “الدولة” و”النواب”.
آخر التطورات لحظة كتابة هذه السطور هو قيادة البعثة الأممية لحوار بين ممثلي المجالس الثلاثة “النواب” و”الدولة” و”الرئاسي” لحلحة أزمة المصرف المركزي، فيما محكمة استئناف بنغازي تصدر حكما بإيقاف قرارات “الرئاسي” الأخيرة بشأن المصرف المركزي.
ذات صلة:
البعثة الأممية: مجلسا النواب والدولة توصلا لتفاهمات هامة حول أزمة مصرف ليبيا المركزي