مصراتة الجزائرية.. والمساريت حكام وهران وتلمسان

* كتب/ عبدالوهاب الحداد،
قبل سنين صادفتني صور على موقع فيسبوك، لمسجد عتيق مهجور، مرفق معها إدراج نصه:
“صور لما تبقى من مسجد قرية مصراتة”
دققت في الصور أكثر لمعرفة مكان المسجد، ثم انتبهت إلى أن ما كتب هو “قرية” مصراتة لا مدينة، وأن المنشور في صفحة باسم “القلعة”، ومكان القرية والمسجد دولة الجزائر وليس ليبيا.
أثار الأمر فضولي إلى بحث إلكتروني اعتقدته سيكون سريعًا وعابرًا، فإذا به يسرق الوقت ويضيف للفضول معرفة قدر جديد مما نجهل. والملخص: أنّ هناك قرية، ومغارة، وواديًا، جميعها يحمل اسم “مصراتة” تقع في بلدية اسمها “قلعة بني راشد” بولاية “غليزان” شمال غرب الجزائر. هذا مختصر ما كان.
قلعة هوّارة:
بعد دخول الإسلام للبلاد “الليبية” ساهم جزء من “قبيلة هوّارة” مع جيوش الفتح الإسلامي للمغرب الأوسط والأقصى وصولا إلى الأندلس مع “موسى بن نصير” و”طارق بن زياد”، وأظهروا إسهامًا نشطًا ومديدًا كما يقول “كمالي”. استقر أعداد من “الهواريين” منذ ذلك التاريخ في ضواحي مدينة “تيارت” شمالي الجزائر.
في الجزائر برزت قبائل “هوارة” في عهد الدولة الرستمية، واشتهروا بثورتهم على “عبد الوهاب الرستمي” (168 – 208هـ) التي استقروا بعدها في جبل “ينجان/ شقران”، وهناك شيَّدوا في القسم الشرقي منه القلعة التي عرفت باسمهم “قلعة هوّارة”، بداية من القرن الخامس حتى القرن الثامن الهجري، تاريخ تحولها إلى اسمها اليوم “قلعة بني راشد” نسبة إلى بني راشد الزناتيين.
مسراتة الجزائرية:
كانت “مسراتة” إحدى قرى “قلعة هوّارة” منذ القرن الخامس عشر الهجري، ويذكر “البكري” في وصفه للقلعة: “… إنها تقع على وادي (سيرات) الذي يجري تحت وادي (يلّل) المكون من رافدين، الرافد الأيسر هو الوادي الذي ينبع من ضواحي (البرج) وعند وصوله إلى (عين مسراتة) – على بعد 2500 متر جنوب غرب مدينة القلعة – يأخذ اسم (وادي مسراتة)”.
أما “ابن خلدون” في حديثه عن “القلعة” فيقول: “… ومن أشهرهم قبائل هوّارة بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء، وهو مشهور باسم هوّارة، وفيه من مسراتة وغيرهم من بطونهم، ويعرف رؤساؤهم ببني إسحاق…”
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يذكر الشيخ “أبو عمر القلعي” أربعة أحياء لمدينة “القلعة” منها “حي الكركوري” الذي كانت به ديار “المسارتية” نسبة إلى “مسراتة” إحدى فروع “قبيلة هوارة”، وهم أهل الإمارة في العصر الأول، وبجوار القلعة ثلاث قرى منها “قرية مسراتة” وتقع برأس “وادي مسراتة”.
يستخلص الأستاذ “بن معمر” في بحثه المنجز عام 2017، أن مدينة “قلعة هوّارة” كانت موجودة عند عين “مسراتة” (قرية مسراتة حاليًا) حيث يتحول الرافد الأيسر لوادي “يلّل” إلى اسم “وادي مسراتة” على بعد 2 كم جنوب غرب مدينة القلعة الحالية، ولما بنيت المدينة الجديدة رحل إليها “أهل مسراتة” وتحولت مدينتهم إلى مجرد قرية صغيرة.
ويؤكد الاستاذ “بن معمر” من جامعة وهران أن المدينة لازالت تحتفظ بمعالم ما ذكره “أبو عمر القلعي”، فأول ما يصادف الداخل للمدينة من الشمال حي “دار الشيخ”، وبعده يأتي “حي راس القلعة” وفيه المسجد الذي بناه “مصطفى بوشلاغم المسراتي” سنة 1734م، ثم “حي السوخ”، وفي أسفل هذه الأحياء “حي الكركوري” تمامًا كما أشار “القلعي”.
ومن مصراتة الجزائر إلى مصراتة ليبيا، ينقل “محمد المنتصر” موجزًا لاسم مدينة “مسراتة” مستدلاً بقول “اليعقوبي”: “إن بني مسراتة وبني ورفلة من بني اللهان من بطون هوارة”، وقول “ابن خلدون” في تاريخه: “ومن هوّارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي سرت قبيلة يعرفون بمسراتة”، ويصل “المنتصر” إلى تأكيد “صلة قبيلة مسراتة الهوارية باسم منطقة مصراتة” بناء على أن المنطقة “عرفت أيضا باسم هوارة، كما عُرف مرسى قصر أحمد في العصور الوسطى باسم مرسى هوارة” نقلا عن “ابن رشيد” في كتابه “ملء العيبة”.
بو شلاغم المسراتي حاكم وهران:
ما زاد من فضولي بشأن الموضوع مراسلة من “الشيخ علي حمودة” على “واتساب” بها بحث مختصر عن “عائلة الخروبي القلعية بالراشدية” وَرَدَ بها اسم “مصطفى بوشلاغم المسراتي” حاكم وهران، وسريعًا وجدت ضالتي عند “المزاري”، الذي ترجم لهذه العائلة المسراتية.
ففي القرن السادس عشر الميلادي شاركت مجموعة من أبناء قبيلة “مسراتة الهوارية” (الليبية) مع “خير الدين بربروس” في حربه لتحرير تونس من الإسبان، ثم دخلوا إلى مدينة الجزائر فثبتهم “بربروس” بها، ومن هناك التحقوا مع أبناء عمومتهم “المسراتيين” في مدينة القلعة.
ويذكر “المزاري” أن “محمد بن إسحاق بو شلاغم المسراتي” هو الذي شيد قصبة القلعة التي يقال لها “قصبة المسارتية”، وأنه قد ” كان للمسارتية رياسة وعزة كاملة بمسراتة والقلعة انقطعت بموت محمد بن إسحاق جد أبي الشلاغم”.
وحفيد “محمد” المذكور “مصطفى بن يوسف بن محمد بن إسحاق بوشلاغم المسراتي الهواري” كان أول “بايات” (جمع باي/ بيك) “وهران، ومازونة، وتلمسان” بداية من سنة (1686م) إلى وفاته سنة (1734م)، ليخلفه أخوته على الرياسة وهم على الترتيب: “يوسف، ثم مصطفى الأحمر، ثم محمد أبو طالب، ثم أخوه مصطفى قائد الذهب”. وكان “المزاري” قد نسب هذه العائلة إلى “مسراتة” الجزائر، بينما ” القلعي” فينسبهم إلى مسراتة طرابلس (الليبية).
أخيرًا:
من المفارقات أن هذه البلدية “القلعة” الجزائرية تشتهر عبر تاريخها بصناعة “الزرابي” وتمثل جزءًا من مورثها، وقد عرفت منسوجاتها عبر التاريخ شهرة واسعة لدقة صنعتها وجمال نسيجها، ما استدعى للذاكرة صناعة “الكليم” موروث مدينة مصراتة الليبية التاريخي، وفتح بابًا آخر للبحث والباحثين.
_________________________________________
المراجع:
- إسماعيل كمالي، سكان طرابلس الغرب، ترجمة: حسن بن يونس، طرابلس، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 1997.
- الأغا عودة المزاري، طلوع سعد السعود، تحقيق: يحي بوعزيز، ج1، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1990.
- خديجة زين، قراءة في شعر أبي عمر عثمان القلعي، مجلة القبس للدراسات الانسانية والاجتماعية، مج 7، عدد خاص، 2023.
- ليلي مرابط، زريبة قلعة بني راشد من خلال وثيقة محفوظة بالأرشيف الوطني الجزائري، مجلة القبس، مج 7، عدد خاص، 2023.
- محمد بن معمر، حفريات في تاريخ هوارة من التأسيس إلى نهاية العصر الوسيط، مجلة المواقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ، ع 12، 2017.
- محمد حسن المنتصر، تاريخ مسراتة منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية العهد العثماني، ط2، 2013.
- خريطة التراث الجزائري، مغارة مصراتة، الرابط: https://urli.info/Wptu
- موقع فيسبوك، Kalaa/القلعة، الرابط: https://urli.info/WpsX