العربي الجديد-
مسلسل “لوكربي: بحث عن الحقيقة” البريطاني القصير المستند إلى حادث تفجير لوكربي عام 1988، والسعي اللاحق للحصول على إجابات من والد أحد الضحايا، يصوّر لحظات مؤلمة على نحو مذهل، وتتزايد كآبته وإزعاجه مع اتساع المخاطر التحقيقية وغموضها، لكنه لا يسمح أبداً بترضية سهلة أو إنصافٍ بسيط لإدانة ناجزة وشافية. مع أداء رئيسي لكولين فيرث يكشف ما لا تستطيع شخصيته التعبير عنه، يأتي العمل مقنعاً وقاسياً في آن.
حين انفجرت قنبلة على متن رحلة بان أم رقم 103، بعد 38 دقيقة من إقلاعها من لندن متجهة إلى نيويورك، لقي جميع ركّابها وطاقمها البالغ عددهم 259 شخصاً حتفهم بعد سقوط الطائرة المتناثرة من السماء؛ فيما توفي 11 شخصاً آخر في بلدة لوكربي الاسكتلندية حيث تناثر الحطام في الريف المحيط. كانت فلورا سواير (روزانا آدامز) إحدى الركاب، وهي طالبة دراسات عليا متألقة وأكبر بنات الطبيب الإنكليزي جيم سواير (كولن فيرث (تلك الليلة، يموت شيء ما داخل الطبيب المستقيم، لكن شيئاً آخر يتجذّر.
استناداً إلى كتابٍ لجيم سواير بعنوان “تفجير لوكربي: بحث أب عن العدالة” (2021) ينجز الكاتب المسرحي ديفيد هاروير سيناريو المسلسل الذي يحمل توقيع المخرج أوتو باثورست (بيكي بلايندرز)، عبر حلقات خمس ترسم من الخارج التحقيق في الهجوم الإرهابي الأكثر دموية في تاريخ بريطانيا. على مدى ثلاثين عاماً تشكّل تاريخ جديد لمدينة لوكربي تخللته اتهامات ومحاكمات وإدانات بحثاً عن العدالة. الدليل الأصلي الذي تم التوصل إليه في البداية، أشار إلى ضلوع إيران ووكلاء تابعين لها، لكن بعد فترة استُبعدت إيران، وتحوّل التحقيق باتجاه ليبيا بعد العثور على أدلة تورّطها بحسب محققين أميركيين وبريطانيين، اتهموا الليبيين عبد الباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة بالضلوع في العملية.
بعيداً عن هذه الدراما الدولية، يعمل المسلسل في المقام الأول بصفته دراما وثائقية، تركّز على العديد من الإشكالات المحيطة بالقضية، مع إضفاء بعض الحريّات الفنية.
الافتقار الرسمي للإجابات، سواء لأسباب تشغيلية أو لحسابات دبلوماسية، يسلّح حزن جيم وزوجته جين (كاثرين ماكورماك). غضبهما مدمّر ودافعهما هوسي. عنوان المسلسل يميّز بحسم: أنه “بحث” عن الحقيقة، وليس “الحقيقية”. إذ تعرّضت تكتيكات جيم المتزايدة الإلحاح، وتطوّر نظرياته/معتقداته حول مَن كان وراء زرع القنبلة، لانتقادات من جانب أسر ضحايا لوكربي الآخرين، خاصّة في أميركا. يتطلّب ضغط قصّة جيم المعقّدة في موسمٍ واحدٍ موجزٍ مستوى من الإبداع قد يشكّك فيه البعض ــ فالصحافي الاسكتلندي موراي غوثري (سام تروتون)، الحاضر دائماً في ذهن جيم، شخصية خيالية تماماً.
الحدث الذي كان يُفترض أن يقدّم شيئاً من الإغلاق النهائي (المحاكمة المعقدة قانونياً في 2001 والتي شملت مواطنيْن ليبيين سلّمهما نظام معمّر القذافي) لا يزيد إلا من الانقسامات والنظريات المتضاربة.
يجسّد فيرث الدافع الدؤوب لجيم، حتى عندما تكون الكلفة باهظة: فهو يخالف القانون لإثبات وجهة نظره، وبعد أن تتراجع جين، يخاطر جيم بإهمال شقيق فلورا الأصغر وشقيقتها لأنه لا يستطيع أن يدع موتها يمرّ مرور الكرام. وفي مرحلة ما يتساءل المرء عمّا إذا كان يحتاج إلى استمرار القضية المعقّدة لأن البديل صعب تفهّمه أيضاً.
بهذا المعنى، يعدّ “لوكربي” مقاربة استكشافية للطريقة التي لا يمكن للحزن من خلالها تغيير أحوال عائلة وتحويل حياة شخص بالكامل، كذلك يعدّ نظرة إلى كيف يمكن أن يؤدّي افتقار المرء إلى إجابات حاسمة إلى اندفاعه بلا رادع، برغم أفضل النوايا. إنه أيضاً دراسة حالة حول كيفية المضي قدماً في الحياة، خطوة بخطوة، حتى عندما يبدو الاستيقاظ كلّ صباح مسعى مستحيلاً. لا يقضي والدا فلورا سواير المسلسل بالكامل في محاولة التصالح مع ما حدث لابنتهما فحسب، إنما أيضاً مع ما يعنيه عدم معرفة سبب حدوثه حقاً، أو ما كان يمكن للحكومة أن تفعله لمنعه. وهذه هي المأساة الحقيقية للمسلسل، والقصّة التي يحاول سردها: عدم اليقين.
بطريقة ما، هذا ما يجعل المسلسل غير مرضٍ في النهاية ببعض جوانبه كذلك. من الناحية السردية، لا وجود لقوس درامي صغير أنيق يؤطّر ويكثّف الحبكة. أحياناً يبدو الأمر وكأن الكثير يحدث بدون اتجاه واضح. مَن فعل ماذا ومتى؟ المسلسل لا يعرف؛ لأن الحقيقة أن لا أحد يعرف على وجه اليقين، حتى بعد كل هذه السنوات. إذا كان “لوكربي” لا يستطيع أن يخبرك، فذلك لأن بعض جوانب القضية لا تزال لغزاً. أحياناً لا تقدّم لنا الحياة إجابات مرتّبة وشافية.
وهذا يثير سؤالا عمّا إذا كانت القصص تستحق أن تُروى فقط إذا كانت هناك إجابات واضحة.
ما حدث لرحلة بان أمريكان 103 كان مأساة، وما حدث لمدينة لوكربي كان مأساة، وأحدهم يعرف الإجابات. قد تكون هناك طرق لا تزال لظهور مزيد من المعلومات. غالباً ما يساعد الحصول على مزيد من الانتباه للقصة. حتى المعاصرون والعارفون بما حدث، سيكتشفون تفاصيل جديدة أثناء مشاهدة المسلسل. كثيرون سيتعرّفون على هذه المأساة أثناء مشاهدتهم، وهذا يعني الكثير.
حُدد موعد محاكمة الليبي أبو عجيلة مسعود فيدرالياً في مايو 2025 لمشاركته في تفجير طائرة بان أم 103. لذا فمن المفارقات أن يُعرض هذا المسلسل الآن.
قبل القذافي رسمياً مسؤولية ليبيا عن تفجير لوكربي. كما دفع أكثر من ملياري دولار تعويضات لأسر الضحايا. ولكن هذا لا يعني أنه كانت هناك إجابات واضحة. “لوكربي” لا يحتوي أي إجابات أيضاً.
ولكنه يحتوي لحظة يتعيّن فيها على شخصية كولن فيرث أن تشرح سبب ارتدائها دبوساً، “لذكرى ضحايا الرحلة 103″، كما يقول، لامرأة ترمقه بنظرة فارغة. لا تعرفه المرأة. وكثيرون غيرها لم يعرفوا أيضاً. وإذا، لاحقاً بسبب المسلسل، عَرفَ بضع أشخاص آخرين القصَة، سيكون “لوكربي” قد فعل شيئاً طيّباً
ذات صلة: