
العربي الجديد-
في تناقض صارخ بين العوائد النفطية الضخمة وتدهور الأوضاع المعيشية، كشفت تقارير حديثة عن ارتفاع مقلق في معدلات الفقر في ليبيا، حيث يعيش أكثر من ثلث الأسر الليبية تحت خط الفقر، نتيجة الأزمات المتلاحقة التي أنهكت البلاد.
وأفادت دراسات وتقارير محلية بأن 32.5% من الأسر الليبية تعيش تحت خط الفقر، منها 1.9% تعاني من فقر مدقع، وفق ما ورد في مجلة “الاقتصاد والأعمال” الصادرة عن جامعة مصراتة مطلع العام الجاري. وتكاد هذه النسب تتطابق مع بيانات مصلحة التعداد الحكومية لعامي 2022/ 2023، استناداً إلى نتائج المسح الشامل لدخل الأسرة وإنفاقها.
ووفقاً لإعلان حكومي نُشر نهاية العام الماضي، يُقدَّر عدد الأسر الليبية بنحو 1.9 مليون أسرة. وبمقارنة هذه الأرقام مع نسب الفقر المعلنة، يتبيّن أن نحو 36.100 أسرة تعيش في فقر مدقع، فيما تكافح قرابة 579.500 أسرة تحت خط الفقر لتأمين احتياجاتها الأساسية واليومية.
وتُظهر هذه الأرقام تناقضاً صارخاً بين الدخل الرسمي للأسر وتكاليف المعيشة، فبينما يحدد القانون الحدّ الأدنى للأجور بألف دينار ليبي، يبلغ متوسط إنفاق الأسرة الشهري 3094 ديناراً، منها 1250 ديناراً للغذاء وحده، ما يعني أن الأسر التي تعتمد على الحد الأدنى للأجور تُنفق أكثر من إجمالي دخلها على الطعام فقط، دون حساب تكاليف السكن أو الصحة أو التعليم. هذا الواقع دفع آلاف الأسر إلى الاقتراض أو بيع ممتلكاتها لتأمين الغذاء، إذ كشفت معلومات مصلحة التعداد الحكومية أن 35% من الأسر المديونة استدانت لشراء الطعام، بينما اضطرت 13% لبيع ممتلكاتها.
لا تقتصر الأزمة على الأرقام والإحصائيات، بل تنعكس بوضوح في الوقائع اليومية التي تعلن عنها الجهات الأمنية. ففي مديرية أمن طرابلس وحدها، تم الإعلان عن ضبط 878 متسولاً خلال العام الماضي، بينهم 329 مواطناً ليبياً، من ضمنهم 61 طفلاً. وهي أرقام صادمة تعكس اتساع رقعة الفقر وتآكل البنية الاجتماعية، خصوصاً أنّ ظاهرة التسول كانت تُعدّ في السابق سلوكاً طارئاً وغريباً على المجتمع الليبي، وإن وُجدت فبشكل محدود للغاية.
ويأتي هذا الواقع منسجماً مع ما كشفته الدراسة الأكاديمية الصادرة عن جامعة مصراتة، والتي سجلت العاصمة طرابلس أعلى معدلات الفقر على المستوى الوطني بنسبة بلغت 11.3%، لا سيما وأن المدينة تحتضن نحو ثلث سكان البلاد. وتتفاقم الظاهرة في المناطق النائية، إذ تُظهر بيانات البنك الدولي للعام الماضي، أن معدلات الفقر وصلت إلى 80% في منطقة تازربو، جنوب شرق البلاد، و70% في درنة في شرق البلاد، وكذلك في جالو جنوب وسط البلاد، كاشفة النقاب عن أن 29% من السكان يعيشون على أقل من 3 دولارات يومياً.
في تعليق لـ”العربي الجديد”، تربط الأكاديمية وأستاذة الخدمة الاجتماعية، إنعام بوغالية، تفشي الفقر بانهيار النظام الاجتماعي التقليدي في ليبيا، لافتة إلى أن “العائلة الليبية كانت تعتمد على شبكة أمان تقليدية قائمة على التكافل القبلي والعائلي”، وفسّرت تراجع تلك الشبكة التكافلية بالشتات الذي تعانيه الأسر الليبية من جراء النزوح والتهجير القسري، ومنها أكثر من عشر أسر هُجّرت قسراً من بنغازي لوحدها. وتضيف: “هذا بخلاف مدن درنة وتراغن وتاورغاء التي شهدت تهجيراً متعمداً لأسباب سياسية، وهناك المائات من الأسر الأخرى التي هُجّرت مناطقها طوعاً بسبب الحرمان من فرص العمل، وغياب فرص التعليم وحق العلاج وغيرها من الأسباب، والنتيجة تزايد كبير في تفكك النسيج الاجتماعي”.
تشير بوغالية إلى أن شريحة واسعة من الأسر التي كانت تُصنَّف سابقاً ضمن الطبقة المتوسطة باتت اليوم عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية لأطفالها، سواء في المجال التعليمي أو الصحي، ما أفرز جيلاً من اليائسين المعرضين للانزلاق نحو الجريمة أو التطرف. وتشدّد على أن “تدهور القيم الاجتماعية بات جلياً في ممارسات عديدة، من أبرزها اختفاء الخجل الاجتماعي من ظاهرة التسوّل، التي اضطر إليها كثيرون كوسيلة لتأمين الاحتياجات الأساسية”.
وتتابع حديثها محذّرة من الآثار الوخيمة لارتفاع معدلات الفقر على النسيج الاجتماعي، مؤكدة أن غياب العدالة الاجتماعية، كقيمة ضامنة للتماسك والاستقرار، من شأنه أن يغذّي شعوراً متنامياً بالسخط والاحتقان. وتضيف: “لسنا هنا بصدد التحذير من انفجار وشيك يمسّ بنية الدولة أو النظام السياسي وانتشار الفساد، بل نركّز على المخاطر المباشرة التي تتهدد الأسر، حين يُقدم الفقير، مدفوعاً باليأس، على السرقة لاعتقاده بأن ميسوري الحال من الفاسدين نهبوا حقه في العيش”.
وفي هذا السياق، تشدّد بوغالية على ضرورة الشروع في إصلاح جذري للظروف المعيشية، من خلال إطلاق مشاريع صغيرة موجّهة لدعم الأسر، وتشجيع الزراعة المحلية، ودعم قطاع، والضمان الاجتماعي، وغيرها من المبادرات التنموية الكفيلة بإعادة بناء شبكات الأمان المجتمعي.
وتحذر الأكاديمية وأستاذة الخدمة الاجتماعية من تداعيات اجتماعية خطيرة بدأت تفرض نفسها بوضوح، ويرصدها الرأي العام بقلق متزايد، من بينها تفشي ظاهرة التسرب المدرسي، وازدياد عمالة الأطفال، إلى جانب انتشار الأمراض بسبب عجز العديد من الأسر عن الحصول على الرعاية الصحية، في ظل انهيار شبه تام للمستشفيات الحكومية، مقابل الارتفاع الشديد في تكاليف العلاج في القطاع الخاص.