متى كذبت في نصك الروائي أيها الكاتب؟
رصيف 22-
* كتب/ باسم سليمان
يقول خوان رولفو: “حين أبدأ الكتابة، لا أعتقد بالإلهام. مسألة الكتابة مسألة عمل. نحن كذابون! كل كاتب مبدع كذاب، الأدب كذبة، لكن إعادة إبداع الواقع ينجم عن هذه الكذبة”.
مع الوقت يصبح النص الأدبي واقعة تاريخية ثقافية حتى لو اعترفنا أنه من بنات أفكار الكاتب؛ وعلى ما سبق سنبني سؤالنا: بين الكذب/التخييل الإبداعي الذي تكلم عنه رولفو، والكذب الأخلاقي انتصاراً لغاية نبيلة والكذب اللأخلاقي – أيضاً – انتصاراً لغاية نبيلة؛ متى كذبت في نصك الروائي أيها الكاتب العربي!؟
ولكي نكون موضوعيين بتجرد، سننقل آراء الروائيين والنقاد كما وردت إلينا، لكن مع ترتيبها وفق تسلسل الأحرف الأبجدية.
بناء على كلام خوان رولفو استطلعنا آراء عدد من الروائيين العرب والنقاد، فكانت أجوبتهم داعمة من ناحية لرأي خوان رولفو، ومن ناحية أخرى، كاشفة بشكل أكبر لجوهر العملية الإبداعية ومتصادمة مع منحى رولفو في فهم العملية الإبداعية. لنبدأ مع الناقد العراقي حمزة عليوي الذي تكلم عن القوة الكامنة في الكذب الإبداعي وكيف يخلق واقعاً موازياً للواقع الحقيقي:
نعم، إنها قوة الرواية… قوة الأدب …! سأفترض أنّ مؤرخاً سيجلس في غرفته بعد حين، وهو راغب بكتابة تاريخ موجز عن المصائر الأخيرة لعاصفة الصحراء المدمرة. سيسأل وسيقرأ. وفي القراءة سيقف عند رواية الكاتب العراقي نجم والي “تل اللحم”. وهي منطقة صحراوية تقع في جنوب العراق، من البصرة صوب محافظة ذي قار – الناصرية. المؤرخ الطموح سيغريه ما يذكره كاتب الرواية السيد نجم والي، عن قائد عسكري فرنسي اسمه جنرال بلزاك، هذا القائد كان يحلم بدخول بغداد فاتحاً بعد عاصفة الصحراء، ثم تأتيه الأوامر بالتوقف عن الزحف صوب بغداد. تتوقف قواته في تل اللحم. يتأمل الجنرال الفرنسي موت حلمه، وعلى مهل يخرج مسدسه وينتحر، يطلق الرصاص على جسده ويموت هناك، انتقاماً من قادته الذين حرموه من فرصة احتلال بغداد. هذا ما تقوله الرواية، لكن الواقع يقول أمراً مختلفاً، فلا قائد عسكري فرنسي اسمه بلزاك، ولا انتحار، ولا رأس يتحطم بالرصاص، هناك فقط عتبة الرواية القائلة: “هذه القصة حقيقية لأني أنا اخترعتها”.
في مقبرة الكتب المنسية، يسعى كارلوس زافون لاستعادة برشلونة مطلع القرن الماضي. أربع روايات لاستحضار برشلونة المنقضية، ولا أحد يقول لنا: هل كان زافون أميناً في ذكر أسماء الشوارع والعوائل؟ ماذا لو كانت الأسماء مختلقة مثل الرواية ذاتها؟
وفي خبر لم تذكره الصحف العالمية في صفحاتها الأولى، أن سائحاً أجنبياً قصد ماكاندو، قرية ماركيز المتخيلة، فركب سيارة أحدهم، في الطريق قال السائق: كلنا نحكي القصص أفضل من ماركيز، هو فقط امتلك آلة طباعة، فكتب قصصنا واشتهر.
في النهاية هل ماكاندو هي قرية ماركيز أم قرية مخلوقات ماركيز؟ وهل هناك من يصدق، بعد رواية مئة عام من العزلة، أن ماركيز لم يُخلق في ماكاندو؟
واستتباعاً لكلام العليوي يقدم لنا الروائي الجزائري سمير قسيمي رؤيته حول الكذب الإبداعي:
تصريح خوان رولفو يؤكد ما ذهبتَ إليه في قضية الكذب الإبداعي، فهو حين فصل بين الموهبة والعمل، نافياً وجود الأولى، لم يفعل إلا أنه كذب على قرائه، بحيث أوهمهم أن بمقدور أي واحد الكتابة، إذا اشتغل على الأمر، وإن لم يملك موهبة. هنا تظهر مقدرة الكاتب الحقيقية، ليس في سرده أو أسلوبه أو حكاياته، بل في قدرته على الإيهام بحيث يبدو أي قول، وإن كان تافهاً، يستحق النقاش.
الكاتب العربي كذاب هاوٍ، لم يستطع أن يبلغ الاحتراف، لهذا يبقى دائماً على الهامش. إنه يكذب أيضاً ولكن ككل كذاب هاوٍ يصدق كذبته على نحو ينسى حقيقته ويغوص في كذبة اخترعها، ولعل أعظمها أنه كاتب كبير، قدير، عظيم عالمي. كذبة صدقها، فامتنعت عليه سبل الرقي بكتاباته عالياً وتجاوز محيطه، وبالتالي امتلاك مخيلة تسمح له بولوج عوالم أكبر في عالم السرد، ولفرط تصديقه لكذبته يتغنى بوهم أنها مسألة وقت، ومن ثم يدرك العالم عظمته وقدرته السردية الخارقة. ولو فقط لم يصدق كذبته لتمكن بكل بساطة، مثلما فعل الكاتب الآخر، من التمييز بين واقعه وكذبه، بحيث لا يصدقه، ويحفظ الحد اللازم بين ما هو عليه وما يرغب فيه.
كذب الكاتب العربي ليس إبداعياً بل نفسياً. هو كذب مرضي يجعل منه مجرد هاوٍ لا في الكذب فحسب، بل أيضاً في الكتابة والابداع.
الأديان والسياسة والتاريخ أكذب من الأدب بأضعاف مضاعفة
ننتقل من صدامية سمير قسيمي إلى الروائي العراقي محسن الرملي الذي له منظوره الخاص للكذب:
بشكل عام أنا كذبت وأكذب عندما أقول عن رواياتي بأنها من صنع الخيال، بينما الحقيقة هي أنها من صنع الواقع، فلولا الواقع لما وجد الخيال أصلاً، والواقع والخيال مثل الجسد والروح، لا يستطيع أي منهما أن يواصل الحياة دون الآخر. ثم إذا كان الكذب يعني الأقوال والخطابات والسرديات التي ليس لديها أي دليل علمي ملموس في الواقع، فهذا يعني أن الأديان والسياسة والتاريخ أكذب من الأدب بأضعاف مضاعفة، وتسببوا، ومازالوا يتسببون بقتل الملايين لإجبار الناس على تصديقهم، بينما الأدب لم يجبر أحداً على تصديقه ولم يفرض سردياته على أحد بالقوة، بل وتجنباً لأي أذى من هذا النوع، ولإنه إنساني جداً، سمى نفسه (خيال/فيكشن) بينما هو أصدق من تلك الميادين في تعبيره عن مشاعر الإنسان وأحلامه وهواجسه وكوابيسه وهمومه وذاكرته وحواراته الداخلية وأسئلته الوجودية.
ما يسمى أكاذيبنا في الأدب هو صدقنا في رؤيتنا
ما يسمى أكاذيبنا في الأدب هو صدقنا في رؤيتنا لما نتناوله، ومن أكاذيبي مثلاً أنني قد جعلت حبيبتي الأولى في رواية “تمر الأصابع” تموت غرقاً بينما هي قد ماتت محترقة في الواقع، ولكن لأنني أتعذب كلما تصورت عذابها، كتبت لها نهاية مغايرة، وهي نهاية، لكثرة تخيلي لها صارت واقعية في ذهني، وكذبت في روايتي “ذئبة الحب والكتب”، عندما قلت بأنني وجدتها مخطوطة بينما أنا الذي كتبتها، وكذبت في روايتي “حدائق الرئيس”، عندما قلت بأن السيدة زينب تعمدت ألا تموت إلا بعد عودة حفيدها من الأسر، وكذبت في روايتي “أبناء وأحذية”، عندما زعمت بأنني أنجبت 27 طفلاً من أمهات مختلفات…
فأي قيمة وأي مقارنة لأكاذيب كهذه بما تمتلئ به كتب الأديان والسياسة والتاريخ من أكاذيب كبرى تسببت بكوارث للناس، عدا أن كل ما ذكرته يعرفه القارئ تماماً، ويدرك بأنها مجرد تقنيات فنية، لأقول من خلالها ما أردت قوله بشكل عام من خلال العمل الأدبي ككل، وهي في نهاية الأمر لم تخرج عن المنطق الواقعي بشيء، وعدم حدوثها على هذا النحو، في الواقع الذي عشته أنا، لا ينفي أنها قد حدثت في الواقع مع غيري… وخلاصة لما قلته، فأنا أرى الأدب أصدق من التاريخ والأديان والسياسة والصحافة.
الكذب يكشف صدقنا في أعمق تجلياته
ومن آلية النجاة التي يؤمنها الكذب للتخلص من ماض أليم عند الروائي محسن الرملي، نعرج على رأي الروائي الليبي محمد الأصفر الذي يجد أن الكذب يكشف صدقنا في أعمق تجلياته:
حينما تجلس للكتابة، ولا يكون في رأسك شيء تكتبه، تشعر بضيق شديد، وتسأل نفسك كيف يحدث معك هذا الأمر؟ وأنت الكاتب الموهوب الذي عاش الكثير من التجارب، وقرأ الكثير من الكتب، فتعيش في صراع بين أن تستسلم للأمر الواقع وتقلب الورقة أو توقف الكومبيوتر وتغادر المكان، وإما أن تتحدى الموقف وتكتب على الرغم من فراغ رأسك من أية فكرة أو مقترح أو رأس قلم، وبالطبع تختار الخيار الثاني وتكتب كلمتك الأولى، اسم أو فعل أو حرف جر أو ظرف زمان، ثم تنطلق متدفقاً نحو المجهول، ومن هنا لا مناص أمامك إلا أن تكذب حتى تستمر في الكتابة ولا ينقطع حبل السرد، تكذب كثيراً جداً، كذب قابل أو غير قابل للتصديق، أنت لا تتكلم مع آخر حتى يوقفك عند حدك، لكنك تكتب، وقراءة ما تكتب ستكون مرحلة قادمة حيث تكون بعيداً عن مكان القارئ وردود فعله السلبية أو الإيجابية.
كلما كذبت أكثر، كتبت أكثر، وستجد نفسك مبدعاً حقاً
وكلما كذبت أكثر، كتبت أكثر، وستجد نفسك مبدعاً حقاً، إن صدقت نفسك واعتبرت ما كتبته صدقاً، عندما تقنع نفسك بأن كتابتك ليست كذباً والنفس تصدقك، فمعنى ذلك أن ما كتبته إبداع راق وعليك أن تواصل العمل دون توقف، فأنت حقاً قد قبضت على الشعاع الذي سيعبر بك نفق الظلام .
في كل كتاباتي أبدأ بالكذب، وأنتظر أن تصدقني نفسي عبر شعور داخلي أحسه. وإن لم تصدقني فمعنى ذلك أن العمل سيء وعلي أن أعيد النظر فيه، أمزقه أو أعيد كتابته بصيغة أخرى، عندما أبدأ بالصدق العمل يفشل، أحس به رتيباً واقعياً لا خيال فيه، تلومني نفسي وتعاتبني، تقول لي: ما هذا بحق السماء؟ ما كتبته أراه أمامي في الواقع، ما الجديد الذي جئت به، أنت تجوّعني، أنت تعرف أني أقتات على الكذب، كل شيء في هذا العالم كذب، الحياة نفسها كذبة كبرى، هيا عد إلى كذبك الجميل، كذب أبيض أو أسود أو حتى كذب أبريل هاته، كله ستهضمه نفسك الجميلة التي تحب.
كُتبت عند الله كذاباً
وأحاول بالطبع أن أعود للكذب، لا يهم إن كُتبت عند الله كذاباً، فأنا لم أكذب على شخص وكذبت على نفسي وأنا حر، والقارئ ليس ملزماً بتصديقي في النهاية، وإن صدق كذبي فشكراً له، سأعتبره من القراء الجيدين الذين يحترمون كذب الناس، ولا يجرمونه أو يمقتونه، عندما تكذب، فأنت تقدم نفسك على حقيقتها، تقدمها عارية كما خلقها الرب، تقدم الصدق الدفين فيها، تكشف للإنسانية سرها المخبوء، وتقدم جوهرها الثمين لهذا العالم الذي لا يستحق.
الروائي/ة مطالب/ة بالكذب
وأخيراً نكون مع الروائي اليمني وجدي الأهدل الذي يفصل بين الكذب الروائي والكذب التاريخي: المؤرخ مطالب بالصدق، وعلى عكسه الروائي، إنه مطالب بالكذب، وكلما كانت الكذبة أكبر صارت الرواية أفضل! لعلنا نتذكر الشكوى المرة التي ظل والد غابرييل غارسيا ماركيز يرددها عن ولده بأنه “كذاب كبير”! ربما شعر ماركيز بالامتعاض من والده حين صرح بهذا الكلام في وسائل الإعلام، ولكن هذه هي الحقيقة بكل وضوح.
الروائي الجيد يمتلك قدرة هائلة على نسج الأكاذيب بطريقة تجعل حتى الملحد يؤمن بوجود الشياطين والملائكة. طبعاً نحن هنا نقصد الكذب الإبداعي الذي هو دليل على خصب المخيلة، والذكاء العالي الذي يطوع الأحداث بمرونة لمقتضيات فنية.
إذا كتبنا عن شخصية واقعية، فيلزم أن نضيف إليها الكثير من الأكاذيب لكي يصدق القارئ أنها شخصية من لحم ودم وليست دمية ورقية. الناس يعشقون هذا النوع من الكذب، لأنه يكشف عن حقائقهم الباطنية.
ولعل أصدق وصف للمبدع بوصفه كاذباً عظيماً هو الذي جاء في القرآن الكريم: “وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ” (226) سورة النمل، وهذا هو سرّ الإبداع باختصار شديد.
وأما الذي يكتب رواية يتحرى فيها الصدق من نوع السيرة الروائية، فإنها برأيي أدنى فنياً بكثير من الرواية الاحترافية التي لا يوجد فيها حتى حرف واحد يطابق الحقيقة.
ووفقاً للتوصيف القرآني للإبداع، فإنه ينبغي إخراج الروايات السيرية من النوع الروائي إلى نوع آخر، هو “السيرة الذاتية”. أي عمل نثري يخلو من الأكاذيب يمكن وضعه ببساطة ضمن فئة علم الاجتماع أو التأريخ وسواها من فروع العلم. إذن كل كتابة صادقة هي علم، وكل كتابة كاذبة ومختلقة من الألف إلى الياء هي أدب.
هل كان كتابنا في هذا الاستقصاء صادقين؟ ليس مهماً الجواب! لذلك أنقل كلاماً لـخوان رولفو الذي يعلّل به سبب اشتغاله في الكتابة: كان أهل قريته أناساً كتومين، ما إن تقترب منهم حتى يغيروا حديثهم، لذلك كان عليّ أن أخترع الحكايات لنفسي.
___________________________________
نشر على موقع رصيف 22. الأحد (08 ديسمبر 2019م).