العربي الجديد-
دعا العديد من الأطراف الليبية إلى ضرورة فتح الدائرة الدستورية في المحكمة العليا، المغلقة منذ عام 2016، من أجل فضّ العديد من الخلافات حول الكثير من القضايا والقرارات التي عرقلت المسار الدستوري للانتخابات، وأيضاً للنظر في دستورية الكثير من القرارات والإجراءات التي اتخذها مجلس النواب، خصوصاً أن أكثرها لا يزال الجدل يصاحبها حتى الآن.
وبعد أن استنكرت نقابة المحامين في ليبيا، مطلع فبراير الماضي، ما وصفته بـ”العبث التشريعي الذي يُفرض على المشهد السياسي في البلاد طوال المدة الماضية”، أكدت ضرورة تفعيل الدائرة الدستورية لإنقاذ الأوضاع من “الانجراف إلى فوضى تشريعية أوسع”.
وفي مطلع الشهر الجاري، طالب عدد من المتظاهرين، أمام مقر المحكمة العليا في طرابلس، بتفعيل الدائرة الدستورية لـ”إنهاء الجدل حول الملفات القانونية والدستورية في المرحلة الحالية”، مشددين على أن استمرار إغلاقها سيعمّق الأزمة الدستورية في البلاد، بحسب بيان المتظاهرين.
وحذّرت أصوات كثيرة، منها المجلس الأعلى للدولة، في أكثر من مناسبة، من غياب الدائرة في ظل انتخابات ستُجرى بقوانين انفرد مجلس النواب بإصدارها، مستبعداً شريكه السياسي، مجلس الدولة.
ومع نهاية العام، تعرقلت الانتخابات، وظلّت قوانينها الدستورية وإمكانية أجرائها محل خلاف، وأعقبها في فبراير الماضي إعلان رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، خريطة طريق جديدة، وصوّت المجلس لتضمينها في الإعلان الدستوري، ومن بين تفاصيل هذه الخريطة تشكيل لجنة من 24 شخصاً يمثلون الأقاليم الثلاثة، يُختارون مناصفة مع مجلس الدولة، لمراجعة المواد الخلافية في مسوَّدة الدستور وطرحه للاستفتاء، مع خطة لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أجل أقصاه 14 شهراً، وكلّف المجلس، ضمن خريطته، حكومة جديدة، منحها الثقة مطلع مارس الجاري.
وإثر ذلك، احتدم الخلاف السياسي حول قرارات مجلس النواب، حيث أبدى مجلس الدولة تحفظاً عليها، فيما رفضتها حكومة الوحدة الوطنية والهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، التي اعتبرت الخريطة إقصاءً لها من تحديد المسار الدستوري للمرحلة المقبلة.
وتختص الدائرة الدستورية في الفصل بالقضايا والطعون ذات الجانب الدستوري والقانوني، والقضايا والخلافات حول القوانين والتشريعات والقرارات التي تصدر عن السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وأيضاً أي مخالفة أو طعن في الإعلان الدستوري، بحسب قانون إنشائها.
ومن أشهر أحكامها، حكمها الصادر نهاية 2014 بعدم دستورية بعض مواد الإعلان الدستوري الخاصة بانتخاب مجلس النواب نهاية 2014، ما سبّب عودة المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق) إلى الواجهة السياسية، مقابل تمسك مجلس النواب بشرعية انتخابه.
ووفقاً لمصدر قضائي ليبي مطلع تحدث لـ”العربي الجديد”، فإن فكرة تعطيل الدائرة الدستورية من قبل المحكمة العليا جاءت لتحصين الاتفاق السياسي الذي وقعه الأفرقاء الليبيون في ديسمبر 2015، من الطعون، خاصة أنه جاء في ظروف صعبة كانت البلاد فيها تعاني حروباً واسعة، واصطفافات حادة قد تودي بالبلاد إلى انقسام حقيقي.
ويبدو رأي الباحث الليبي في الشأن الدستوري، محمد محفوظ، قريباً من هذا التعليل، فهو يشير إلى وجود ضغوط سياسية، بعضها محلي وآخر دولي باتجاه تعطيلها، مخافة أن ينسف أي طعن الاتفاق السياسي برمته، مشيراً أيضاً إلى أن “أسباب التعطيل سياسية لا قانونية”.
وفي تصريحه لـ”العربي الجديد”، يستبعد محفوظ فتح الدائرة، لافتاً إلى أن الجمعية العمومية في المحكمة العليا جددت قرارات تجميدها، عقب اجتماعها قبل نحو أسبوعين، موضحاً أن القرار الجديد للجمعية العمومية أوضح أن “الظروف السياسية لا تسمح بفتحها الآن”.
من جهة أخرى، يقول الأكاديمي الليبي والباحث في الشأن السياسي، يوسف البخبخي، إن “تعطيل الدائرة جاء رغبة من المحكمة العليا في ألا تكون طرفاً في الصراع السياسي والعسكري الدائر، هذا بالإضافة إلى دواعٍ أمنية ومخاوف، في بلاد ينتشر فيها السلاح”.
ويعتقد البخبخي أن “تعطيل الدائرة الدستورية خلخل الموازين، وجعل من القضاء طرفاً سياسياً”.
ويفسر البخبخي هذه المفارقة، قائلاً لـ”العربي الجديد”، إن “التعطيل جاء ضمن تداعيات حكم الدائرة بعدم دستورية مجلس النواب، الذي لم يعترف بالحكم، مدّعياً أنه صدر بقوة السلاح، ولهذا صبّ تعطيل الدائرة في مصلحة المجلس”.
وأضاف المتحدث ذاته: “بغياب الدائرة، غاب الرقيب الدستوري على المجلس، وبات يصدر تشريعات وقوانين لا أساس دستورياً لها، كالقوانين الانتخابية التي أشعلت الخلاف، وأدت إلى فشل الانتخابات، ووصفتها مفوضية الانتخابات بالقوة القاهرة، وقد اتخذها المجلس دون التوافق مع مجلس الدولة، في مخالفة للإعلان الدستوري والاتفاق السياسي”.
ووفقاً لرأي البخبخي، فقد سيطر مجلس النواب على الحياة السياسية، واستفرد بالمشهد من خلال المخرجات غير الدستورية التي يصدرها دون رقابة، و”بالتالي أزاح الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، وملتقى الحوار السياسي أيضاً، وهمّش مجلس الدولة، بل غيّر حتى هيكلة المجلس الأعلى للقضاء، بقانون خرج في جُنح الظلام دون جلسة ولا تصويت”، في إشارة إلى القانون رقم 11 لسنة 2021، الذي سربته وسائل إعلام ليبية في أثناء نظر القضاء في الطعون على المستبعدين من الترشح للانتخابات الرئاسية، في ديسمبر الماضي، وأحدث جدلاً واسعاً دون أن يوضح مجلس النواب حتى الآن تاريخ صدوره وطريقة إنفاذه.
وفي نظر البخبخي، فإن “وقوع أحداث كهذه في غياب متعمّد للدائرة يُعَدّ إقحاماً للقضاء في الحياة السياسية”، خاصة أن الجمعية العمومية رفضت المناشدات الكثيرة بفتح الدائرة، ورفضت إنفاذ الحكم الصادر عن الدائرة الإدارية في محكمة استئناف طرابلس، والقاضي بإلغاء قرار تعطيل الدائرة.
ووفقاً لرأي البخبخي، “يحق لاستئناف طرابلس إلغاء تعطيل الدائرة؛ لأنها أُلغيت بقرار إداري من المحكمة العليا، وليس بحكم”.
وتشير المعطيات السياسية إلى زيادة تأزم المشهد في البلاد، خاصة في ظل وجود حكومتين تتنازعان السلطة، يقف وراء كل منهما جسم يرى أنه المخول بالتشريع، وما يخشاه المطالبون بإعادة فتح الدائرة الدستورية أن ينفذ الوقت قبل أن تتنبه الأطراف الليبية إلى أهمية الدائرة الدستورية في الفصل في القضايا الخلافية، ولا سيما قرارات مجلس النواب التي صدرت بشكل أحادي، وهي تعرقل المسار الانتخابي، وأخرى تسعى لإطالة فترات الانتقال السياسي.