
* كتب/ عمر السويحلي،
تشهد ليبيا أزمات اقتصادية متلاحقة أدت إلى ارتفاع كبير في الأسعار، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للدينار الليبي، وزاد من الأعباء المعيشية على المواطنين.
تفاقمت هذه الأزمة بسبب تجميد المرتبات وارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية، إلى جانب معدلات التضخم التي تجاوزت 30% في بعض المناطق، خاصة في الجنوب، حيث يعاني السكان من صعوبة وصول الإمدادات وارتفاع تكاليف النقل.
يرجع الارتفاع الحاد في الأسعار إلى عدة عوامل رئيسية، أبرزها غياب رؤية اقتصادية واضحة لدى الدولة، واعتماد ليبيا على الاستيراد لتلبية أكثر من 90% من احتياجاتها. هذا الاعتماد المفرط يجعلها شديدة التأثر بتقلبات أسعار الصرف، خاصة مع انخفاض قيمة الدينار الليبي، حيث وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى 7.95 دينار، مقارنة بالسعر الرسمي البالغ 4.7 دينار في سبتمبر 2024. هذا الفرق الكبير أدى إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة وزيادة معدلات التضخم، مما أضعف القدرة الشرائية للمواطنين.
إلى جانب ذلك، فإن عدم استقرار قطاع النفط، الذي يُستخدم أحيانًا كورقة ضغط سياسي، ساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية. كما أن السوق السوداء تتحكم بشكل كبير في تجارة العملة والذهب، مما يخلق مزيدًا من التقلبات السعرية. وتأخر صرف الرواتب، وغياب وسائل النقل العام، والازدحام الشديد، كلها عوامل أدت إلى ارتفاع تكاليف النقل والتوزيع، مما زاد من الضغوط الاقتصادية على المواطنين.
تُظهر التقديرات غير الرسمية أن الطبقة الوسطى في ليبيا باتت محدودة للغاية، حيث تشكل 20% فقط من السكان، بينما تمثل الطبقة الغنية 15%، في حين تصل نسبة محدودي الدخل إلى 65%. يعود هذا التفاوت إلى غياب بيانات اقتصادية دقيقة بسبب غياب الإقرارات الضريبية الصحيحة وعدم سيطرة الدولة والمصارف على التدفقات النقدية.
إضافة إلى ذلك، تعاني ليبيا من تضخم وظيفي كبير، حيث يبلغ عدد موظفي الدولة نحو 2.25 مليون موظف (ويساوي هذا الرقم تقريبا عدد موظفي الحكومة الفيدرالية الأمريكية مع الفرق الكبير بين عدد سكان البلدين فليبيا 7 ونصف مليون وأمريكا340 مليون تقريبا)، أي أن واحدًا من كل ثلاثة ليبيين يعمل في القطاع العام، ما يجعل الوظيفة الحكومية الضامن الأساسي للدخل الشهري للعديد من الأسر.
وفقًا لجدول المرتبات الموحد لسنة 2023، يتراوح صافي المرتبات الشهرية للموظفين الحكوميين بين 773 دينارًا للدرجة الثانية و2,859 دينارًا للدرجة الرابعة عشرة، مع علاوات سنوية متفاوتة. وتشير بيانات أخرى إلى أن متوسط الراتب الشهري في ليبيا يبلغ حوالي 2,300 دينار، مع حد أدنى قدره 580 دينارًا، وحد أقصى يصل إلى 10,200 دينار. ولكن مع تفاقم التضخم وعدم زيادة المرتبات، تزداد معاناة الموظفين الحكوميين وأسرهم.
أصبحت الظروف الاقتصادية المتدهورة تحديًا كبيرًا للشباب المقبلين على الزواج، حيث ارتفعت أسعار الأراضي إلى 100 ضعف قيمتها قبل 2011، وقفز سعر الذهب إلى 15 ضعفًا، وهو عنصر أساسي في مهور الزواج وفق العادات الليبية. كما ارتفعت تكاليف العلاج والدواء ورسوم التعليم الخاص، مما زاد من الضغوط على الأسر محدودة الدخل.
رغم امتلاك ليبيا شريطًا ساحليًا يمتد لأكثر من 2000 كيلومتر على البحر المتوسط، إلا أنها تستورد الأسماك المجمدة. كما تعتمد على استيراد الإبل والأغنام رغم امتلاكها مساحات شاسعة من المراعي. حتى المنتجات الزراعية التي يمكن زراعتها محليًا يتم استيرادها من دول الجوار، في ظل غياب استراتيجية لدعم الإنتاج المحلي. بل إن الليبيين يستوردون زيهم التقليدي من الصين والطواقي من تونس، في مشهد يعكس الاعتماد الكامل على الخارج وعدم استغلال الموارد المحلية.
مع اقتراب شهر رمضان، من المتوقع أن تشهد الأسواق الليبية ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار المواد الغذائية في بدايته، يتبعه ارتفاع في أسعار الملابس والأحذية مع اقتراب عيد الفطر. وبعد ذلك بأشهر قليلة، يأتي عيد الأضحى، حيث يحرص الليبيون على شراء الأضاحي، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار اللحوم بشكل كبير. هذه الدورات الموسمية لارتفاع الأسعار تزيد من معاناة المواطنين الذين يواجهون بالفعل ضغوطًا مالية خانقة.
لمواجهة هذه الأزمة، تحتاج ليبيا إلى تبني إصلاحات اقتصادية جادة تشمل:
- . العمل على استقرار سعر الصرف من خلال سياسات نقدية فعالة تحد من تقلبات السوق السوداء.
- تعزيز الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة لتقليل الاعتماد على الاستيراد.
- تقديم دعم مباشر للعائلات الفقيرة لمساعدتها في مواجهة الأعباء المعيشية المتزايدة.
- تسهيل الإجراءات المصرفية لتشجيع التعاملات البنكية وتقليل الاعتماد على النقد والسيولة المتداولة خارج النظام المصرفي.
- فرض رقابة صارمة على الأسواق والأسعار لمنع الاحتكار والاستغلال.
- تحسين الخدمات العامة مثل توفير علاج مجاني جيد، ورفع مستوى التعليم لمحدودي الدخل.
- تنظيم قطاع الصرافة وتحفيز الاقتصاد عبر تحصيل الزكاة ومنح التراخيص لشركات الصرافة وفق معايير واضحة تحدّ من المضاربة غير المشروعة.
و الأهم من ذلك كله والأخطر هو ضرورة العمل على استئصال الفساد في كل جوانبه وأشكاله، فقد صُنفت ليبيا في المرتبة العاشرة ضمن 180 مرتبة على مقياس لمنظمة الشفافية الدولية .
لكن تنفيذ هذه الإصلاحات يظل تحديًا كبيرًا في ظل وجود حكومتين تتنازعان على السلطة والثروة. وفي ظل هذا الانقسام، يستحيل القضاء على الفساد ويصعب تطبيق أي سياسات اقتصادية فعالة، ويبقى الاقتصاد الليبي في حالة انهيار مستمر، مع ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدينار بشكل متكرر.
الحل الجذري يكمن في تحقيق الاستقرار السياسي أولًا، من خلال إجراء انتخابات حرة ونزيهة تنتج عنها حكومة موحدة، قادرة على فرض سيطرتها على كافة أنحاء البلاد والقضاء على الفساد.
فبدون نظام سياسي ديمقراطي ومستقر، لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، ولا يمكن تحقيق توازن في الأسعار.
الديمقراطية القوية أولًا، ثم التنمية المستدامة ثانيًا، وعندها فقط يمكن تحقيق استقرار اقتصادي حقيقي.
للكاتب أيضا: