الاخيرةالرئيسية

ليبيا الخير عنوان أخترته لوطني

* كتب/ فتحي الفاضلي،

ليس كل ما يبدو لنا مصادفة، هو في الواقع، مجرد مصادفة.

ولدت في مدينة درنة التي اشتهرت بعذوبة مياهها، وكثرة حدائقها وبساتينها واشجارها، وكثرة ورودها وثمارها وزهورها، وخاصة الياسمين. ولازلت أذكر معالم ومواقع وأماكن في هذه المدينة، شهدت مرحلة الطفولة البريئة، التي تحولت أحداثها، مع الأيام، إلى ذكريات جميلة، لم ولن تُنسى بإذن الله.

أذكر من معالم درنة: “البياصة الحمراء”، و”سينما التاجوري”، و”الجامع العتيق” بقببه العديدة. وأذكر أن إمام هذا المسجد كان يمرر على المصلين، في ذكرى ميلاد الرسول الكريم، قارورة زجاجية مغلقة، بها شعرة، يقول إنها من شعرات الرسول الكريم، وكنا ننتظر دورنا بعد الصلاة بفارغ الصبر، لنقبل هذه القارورة، ولنتباهى بذلك بين أقراننا.

كما أذكر كذلك مقهى “اجويدة”، ومحل “كريكش”، ونقطة البوليس (مركز الشرطة)، و”سوق الظلام”، و”مدرسة النور”، و”الوادي”، و”الملعب البلدي” و”سوق الخضرة”، وغيرها من معالم ومواقع وأماكن، كانت تعج بالمرح والحيوية والنشاط.

كما أذكر جيداً التنافس الشديد بين فريقي الاتحاد ودارنس، الفريقان الوحيدان في المدينة، وأذكر أننا كنا أثناء أو عقب كل مبارة، نردد أغنية أو أهزوجة تقول: “دارنس وبس.. والاتحاد نعس” أو العكس، كما أذكر السيد “اغنيوة” الرجل الذي كان يبيع “المسير مع كسرة خبز، وكان ثمن هذه الوجبة الشعبية، قرشاً ونصف، وكنا نتجمع وكل منا ممسكاً بكوب “المسير” وكسرة الخبز، وننزوي في ركن من أركان “البياصة الحمراء”، حيث كان السيد “اغنيوة” يبيع المسير، في “زير” كبير، مغطى بقطعة خشبية، وكنا نتحدث اثناء ذلك عن كل شيء، وخاصة عن المارة والرياضة وعن مشاريع المستقبل بعقلية بسيطة طفولية بريئة.

ومن ذكريات مدينة “درنة” أيضاً، والتي لا تُنسى: “الناعورة” التي كانت تطلق صوتاً، وقت الغروب، كصوت “الإنذار” يعلن عن وقت الإفطار في كل يوم من أيام شهر رمضان الكريم، بل أذكر جيداً، أغنية كنا نرددها في الشارع قبيل أذان المغرب، في الشهر الكريم، كانت الأغنية تقول: “أذن يا حميد الجربة.. صيام ونرجو في الشربة”، (حميد الجربة المؤذن- نرجو بمعنى ننتظر)، كما لا يمكن أن ننسى السيد “عطية الفوال” جارنا جزار الحي، وجارنا الطيب السيد “منصور الفحام”، والذي كان يبيع الفحم والكيروسين (القاز)، ودكان “الحاج عبيد” للمواد الغذائية، ودكان “عميش”، و”السيد النحلي” الذي كنا نسكن في أحد بيوته بالإيجار، وأذكر جيراننا الطيبين الآخرين جميعاً حتى يومنا هذا. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدهم برحمته أحياء وأمواتاً.

سجلت هذه المواقع والأسواق والميادين، مرح الطفولة، واللعب البريء، الذي كان يزيده حيوية، كرم أهل درنة، الذين غلب عليهم، بجانب ذلك، الطيبة والتماسك الاجتماعي والمرح.

ترك الوالد الكريم تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته، مدينة “درنة” الجميلة، وترك أهلها الطيبين، وودعنا المياه العذبة والورود والياسمين، واتجهنا إلى مدينة “بنغازي”، سعياً وراء لقمة العيش، فالعائلة الكريمة تتجه أينما كان يتجه الوالد الكريم رحمه الله. فكان عالم آخر من الحب والنشاط والخير ينتظرنا في مدينة بنغازي.

لم أكن أدري أن مدينة بنغازي كانت تستعد لاستقبالي استقبالا عنيفاً، فقد بدأت أول يوم من وصولي إليها بشجار عنيف مع أحد جيراننا، الذي لم يرق له القادم الجديد، وكان نصيبي ونصيب جاري لكمات عديدة دشنت أول يوم لي في هذه المدينة العريقة.

وأدركت منذ ذلك اليوم، وما بعده من الأيام والسنين، أن تعلم فنون الدفاع عن النفس، قد أصبح فرضاً، في مدينة بنغازي، خاصة وأن أجواء “الصابري”، الحي الذي أقمنا فيه، كان محاصراً بأجواء العنف من كافة جوانبه، فإما ضارب وإما مضروب، ودخلت في حياتي في بنغازي مصطلحات جديدة، اذكر منها حتى يومنا هذا: “امسوط- تعني رائع” ، و”اطلق – اضرب” و”سبق – أضرب قبل أن تُضرب – خطوة استباقية” و”روسية” و”خارب خراب – دلالة على الجودة والاتقان والإبداع”، و”ولد بلاد” و”فرخ بحر”، و”يا ري”، و”اسلح – يعني إرخي”، وغيرها من مصطلحات ومسميات، لكل منها دلالتها واستخداماتها المحلية الخاصة.

كان نشاطنا يدور حول أحياء ومعالم عديدة في مدينة بنغازي أذكر منها “الفندق البلدي”، و”الملعب البلدي”، و”البركة”، و”سيدي حسين”، و”الصابري”، و”دكاكين حميد”، و”السلماني”، و”سوق احداش”، و”اللثامة”، و”الفويهات”، و”السيلس”، “والوحيشي”، و”سوق الجريد”، ومدرسة “شهداء يناير”، ومدرسة “التوريلي – أي النهضة”، و”ضريح عمر المختار”، وشارع “عمرو بن العاص”، و”القبطارنية”، و”ميدان البلدية”، و”شارع عمر المختار”، وأندية الأهلي والتحدي والهلال، و”جامع بالروين”، و”الفويهات”، و”معمل شفيق”، و”سوق التركة”، وغيرها من أزقة وحواري وأحياء، شهدت مرحلة الشباب بما تحمله من حيوية وطموح واندفاع.

طغت كرة القدم على اغلب سنوات الشباب في مدينة بنغازي، فقد كنا نمارس هذه اللعبة، ليل نهار في كل مكان تقريباً، وفي كل فصل من فصول السنة تقريباً، في الشوارع والملاعب والمدارس والأزقة، وكلما أتيحت لنا فرصة لذلك. كما شكلنا فرقاً عديدة، اذكر منها فريق “حميد العالم”، وفريقنا الذي كان يسمى فريق “الجالي” (رحمه الله رحمة واسعة) ثم أسميناه فريق “التقدم”، كما كان لكل حي ومنطقة فريق أو أكثر، وكان التنافس على أشده بين الفرق، وكنا نهتم بهذا الأمر اهتماما شديداً، أخذ أغلب أوقاتنا.

وبالطبع، لم يخل الأمر من المشاجرات والمشاكل والاختلافات، عقب كل مباراة تقريباً، وكنا مع ذلك ننتظر المباريات القادمة بفارغ الصبر، ولم تكن كرة القدم هي اللعبة الوحيدة التي طغت على حياتنا، بل اضافت الألعاب الموسمية طعماً جميلاً للحياة في مدينة بنغازي، وخاصة موسم “البطش”، و”الطقيرة”، و”الزغادي” و”الليبرة – في شهر رمضان غالباً”. ولعل أجمل أيام مدينة بنغازي، تلك التي قضيتها في مدرسة “شهداء يناير”، أثناء الدراسة الثانوية.

أشتهر أهل بنغازي بسلوك اجتماعي خاص، فالمرء يحس أن علاقة وطيدة تربطه مع كل من يحدثه أو يقابله، ولو لدقائق معدودة، وكأنه على صلة به منذ سنين عديدة.

انتقلنا إلى مدينة “طرابلس” العريقة، لنفس الأسباب، أي أننا كنا نتجه أينما يتجه الوالد الكريم، وهناك في طرابلس، كان ينتظرنا عالم آخر من الخير والحب والنشاط، وتغيرت أسماء الشوارع والميادين والأحياء، وحل محلها أسماء لم تنسلخ معانيها ودلالاتها عن الوطن وتاريخ الوطن.

فدارت الحياة في مدينة طرابلس حول أحياء ومعالم وشوارع وأزقة ميادين عديدة، أذكر منها: شارع “عمر المختار”، وميدان “الرشيد – سمي بـ ميدان 9  أغسطس – ثم ميدان السويحلي”، و”وميدان “الجزائر”، وجامعة طرابلس، وكلية “العلوم – الكلية التي تخرجت فيها”، وكليات “الزراعة” و”الهندسة”، و”ملعب 11 يونيو”، و”سوق الحوت”، و”المدينة القديمة”، و”سوق الترك”، و”السرايا الحمراء”، و”شارع الشط”، و”بن غشير”، و” الهنشير”، و”المدرسة المركزية (الابتدائية)، و”ميدان الشهداء”، وجامع “بورقيبة”، وجامع “القصر”، وشارع “الزاوية”، و”شارع السيدي”، و”حي الاندلس”، وشارع “الاستقلال”، وشارع “24 ديسمبر”، وشارع “ميزران”، وأحياء “الظهرة”، و”بالخير”، و”الفرناج”، وغيرها من المناطق والميادين والأحياء.

كانت طرابلس عامرة بالحيوية والحياة، وكانت مدينة جميلة جداً، زاد من جمالها بساطة وبشاشة وطيبة أهلها، وكانت أجمل الأوقات في طرابلس، فترة ما بعد صلاة العصر، حيث كنا نجوب مع زملاء الدراسة والأصدقاء شوارعها وأحيائها يومياً تقًريبا، نمر في اليوم الواحد على أكثر من ميدان من ميادينها الجميلة، وعلى أكثر من مقهى، وأكثر من كشك للصحف والجرائد والمجلات، وكنا لا نمل من ذلك.

كان الطلبة يلتحقون بـ”الجامعة الليبية – طرابلس”، من جميع أنحاء ليبيا، من المدن والدواخل والقرى والأرياف، من الشرق والجنوب والغرب، فتعرفت على أغلب عادات وتقاليد وأعراف وأعراق ولهجات أبناء وطني، من مختلف مناطق ليبيا.

ومن مرح الطفولة في مدينة درنة، واندفاع الشباب في مدينة بنغازي، إلى الحياة الجامعية في طرابلس، وما فيها من تفاعلات ثقافية وسياسية، اختلط فيها الأمل والعمل والطموح، ونما فيها الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن. وكانت سنوات كلية العلوم من أجمل سنوات العمر في طرابلس.

لم تتوقف رحلتي مع الوطن عند المدن التي استقر فيها الوالد الكريم رحمه الله، بل حباني الله سبحانه وتعالى بزيارة مدن وقرى أخرى عديدة، إما ضمن تكاليف الدراسة، أو ضمن تكاليف العمل، أو في إطار الزيارات للأقرباء والأحبة والأصدقاء.

أذكر من هذه المدن والقرى والأرياف، التي حباني الله سبحانه وتعالى بزيارتها والتعرف على أهلها وكرم وطيبة أهلها: “الزاوية”، و”يفرن”، و”تازمرايت”، و”غريان”، و”جنزور”، و”طبرق”، و”المرج”، و”البيضاء”، و”اجدابيا”، و”جالو”، و”اوجلة”، و”سبها”، و”تاجوراء”، و”سوق الجمعة”، و”براك”، و”السرير”، و”غات”، و”العوينات”، و”ترهونة”، و”بركت”، و”أوباري”، و”الخمس”، و”قصر خيار”، و”سيلين” و”شقران”، والقربولي”، وقرية “الأفاضل – الأصل)، و”مصراتة”، و”زليطن”، وغيرها من مدن وقرى وطن الخير.

وعبر رحلة العمر مع الوطن..

رأيت، كلما انتقلت من مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى أخرى، ومن جهة إلى جهة، رأيت اختلافا، وتنوعاً، وتغيراً، في كل شيء تقريباً، في العادات، في الأعراف، في التقاليد، في اللهجات، في المظاهر، في الملابس، في الأطعمة وأنواعها ونكهتها ومذاقها، في معايير وأشياء أخرى كثيرة.

لكن شيئاً واحداً.. لم يتغير في وطني..

كان الخير في وطني ينتصر دائماً، كان يفرض نفسه ويطغى على الشر، في كل مدينة وقرية وريف، كان الخير في ليبيا ينتصر دائماً، أينما اتجهنا، بالرغم من ضجيج وصخب ونعيق الشر.

ولأن الخير كان دائماً يسود بلادي وأهل بلادي، أينما حط بنا الرحال، لذلك أسميت وطني “ليبيا الخير”، وستظل ليبيا الخير، وإلى الأبد بإذن الله، بكل قراها وأحيائها ومدنها وصحرائها وسهولها وسواحلها وجبالها، مهما حاول المرجفون المتخلفون المتعصبون، الذين تمكنت من قلوبهم الجاهلية، أن يوقعوا بيننا وبين حب الوطن، فليبيا وطن يحبنا ونحبه، وسنظل نحبه، وأهله جميعا، بكل ترابه ولهجاته وأعراقه وجهاته، وإلى الأبد، بإذن الله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى