* كتب/ أسامة وريث،
سؤال يطرحه كثيرون دون إجابة!
منذ عصر ملوك الطوائف بالأندلس وعصر المماليك بمصر والشام، الذين تراجعوا نصف طائعين أمام سيادة المسيحيين في المتوسط، كان الملك الظاهر بيبرس قد كتب إلى أحد أمراء صقلية، معلقاً بالقول: ” أنتم خيولكم المراكب، ونحن مراكبنا الخيول!” في إشارة واضحة في اللاوعي الشرقي عن مدى التراجع التقني والريادي في ركوب البحر. إذاً التراخي عن ركوب البحر، وفرض السيادة الإقليمية والدولية فيه، كان قد جعل من البحر وسفنه ملكاً للآخر! منذ عصر المماليك والموحدين.
وهذا ما قاد بالضرورة إلى عزلة المسلمين مشارقة ومغاربة، في مقابل نجاح الأوربيين إسبان وبرتغاليين وإنجليز وغيرهم إلى النجاح في اكتشاف العالم الجديد، وجميع الجزر والمحيطات، في وقت ظلت فيه البلدان الإسلامية وخصوصا الدولة العثمانية بصفتها العلية الوحيدة وقتذاك؛ خارج إطار هذا التسابق المهم! الذي لو دخلته، أو أي دولة إسلامية أخرى لكان لنا نصيب لغوي وثقافي، وربما حتى اجتماعي وهجراتي في بلدان العالم الجديد، بما فيها الأميركتين وأستراليا وجزر الهادي!. فكأن فعلاً وعملاً قد قامت القيامة منذ خمسة قرون.. وحُشر الناس على جانبي مضيق جبل طارق، وقرئ كتاب الحضارة من أوله.. ثم حصدت كل أمة ما كسبت يداها: فالشعوب المطلة على المحيط والتي ركبت البحر باتجاه اكتشاف الجزر والقارات؛ قد ذهبت إلى أبعد نقطة في جنات عدن تجري من تحتها مئات الأنهار في كندا وأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا.. والشعوب المسجونة وراء مضيق جبل طارق، ذهبت إلى جحيم العالم الثالث، أصبحت شرقية نامية، ومازالت فيه حتى الآن.
لقد كانت اسبانيا ودول أوربا قد تعلمت تدريجياً إتقان استخدام المدفع والبارود والسلاح، وهو تغير تقني ذو علامة فارقة في طريق العصر، اعتبره بعض المراقبين الحد الفاصل بين العصرين الوسيط والحديث. تغير تقني عسكري لم تفلح سوى الدولة العثمانية في انتهاجه من بين جميع دول وأقاليم المنطقة الإسلامية، التي ظلت على منهجية السيوف والرماح والخناجر مربوطة في أحزمتها، وعلى النقطة نفسها التي تركهم فيها معاوية قبل 800 سنة!. فكانت بذلك في واقع الأمر قد دخلت غيبوبة طويلة ولا زالت مستمرة، شهدت خلالها مراحل تراجع فكري وتقني وحضاري وعسكري رهيب.
مشكلتنا في إغلاق الباب أمام العقل، وجعل النص التاريخي والمذهبي؛ أسمى مشرّع عبر العصور. ففي مجال التاريخ تم اعتبار كتاب المؤرخ الطبرستاني: محمد بن جرير رستم الطبري، المعنون بـ”تاريخ الرسل والملوك” أقدس نص تاريخي وجب اللجوء إليه دون تشكيك، رغم كل التناقضات/التضاربات التي تحملها رواياته!.
وفي مجال الفقه، توالت المذاهب التي سارت جميعها في درب تغليب النقل على العقل، فأنتجت فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية، إلى أن حطت ركابها عند الإمام الغزالي، الذي وضع الأسس الداعمة لقصور العقل البشري، لننظر مثلا كتابه “تهافت الفلاسفة”.
وهذا ما قاد المسلمين تدريجياً إلى مثلث الزهد والتعبد والجمود دون غيره من النشاطات، في الوقت الذي آمن فيه الأوربيون بقدرات عقولهم، فانطلقوا نحو التفكير والصناعة والإنتاج والاختراع والإبداع.
وفي مجال الفكر، لم يسلم المتكلمون من قدسية النص في ما يسمى بعلم الكلام. بصيص النور الوحيد الذي خفت كشمعة هادئة في ظلامية استحواذ النص على العقل؛ هو ما جاء به المفكر ابن رشد، الذي آثر طريق العقل في فهم النص ولربما في تجاوزه، ورد على اتهامات الغزالي، في كتاب ترجمته أوروبا إلى اللاتينية، وهو بعنوان: “تهافت التهافت!”. لم يجد فكر ابن رشد أي صدى في الثقافة الإسلامية، فاستلمه الأوروبيون وانتصروا لفكر العالم المسلم على لاهوتية القديس بونافونتورا Bonaventura وتعاليم طوما الإكويني Thomas de Aquino المسيحي. فبقي المسلمون في التحريم والتحليل والتجريم إلى يومنا هذا.. بينما انطلق الأوروبيون نحو العمل والفكر والخلق والتحرر والابتكار والإبداع. والنتائج أمامكم على الأرض، وفي جميع المستويات العقلية والفكرية والصناعية والطبية والهندسية والإبداعية والسلوكية والأخلاقية حتى مع الطير والحيوان. والنتيجة إذا كما نراها اليوم مؤلمة على جميع المستويات.
لماذا انهارت الحضارة العقلية والمادية والفنية الإسلامية!؟ سؤال يطرحه كثيرون. وهي الأسباب ذاتها إلى جانب الانشغال بقضايا الدين: تحليل تحريم تجريم الخ، إلى مساء هذا اليوم! ترى شغلنا الشاغل هو قضايا الحلال والحرام! والاهتمام بشؤون الاسم والأصل والفصل والقبيلة. بدل الاهتمام بشؤون التنمية والتفكير والإبداع والابتكار والاختراع؛ حتى صار الدين أكبر همّ للمسلمين! والدنيا مبلغ علمهم! هو السبب نفسه الذي أدى بالحضارة الإسلامية إلى الاضمحلال والانهيار والزوال.