عربي 21-
فاقمت اتفاقية ترسيم “الحدود البحرية” بين ليبيا وتركيا من أزمة مستمرة منذ عقود في شرق البحر المتوسط بين أنقرة وأثينا، حيث مثلت هذه الصفقة منفذا مهما للسياسة التركية؛ فيما اتجهت اليونان إلى سندها الأوروبي التاريخي إضافة للبحث عن اتفاقيات جديدة مع حلفائها بمصر وإسرائيل.
وبرزت خلال سنوات عدة، نزاعات وخلافات عميقة بين البلدين منها المطالبات الإقليمية في بحر إيجه والخلافات حول المجال الجوي هناك، حيث أدى الاحتكاك بين الجارتين إلى شفا الحرب ثلاث مرات في نصف القرن الماضي.
وفي مطلع نوفمبر الماضي، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن تسليح اليونان للجزر الواقعة شرقي بحر إيجة يشكل تهديدا لأمن تركيا.
وأوضح تشاووش أوغلو أن أثينا قامت بتسليح ما لا يقل عن 16 جزيرة من أصل 23 شرقي بحر إيجة، مبينا أن أنقرة تدعو اليونان للامتثال للقانون الدولي.
وأضاف أن تركيا ركزت على إحياء آليات الحوار مع اليونان مطلع عام 2021، لكن أثينا فشلت في إظهار الإرادة السياسية اللازمة لذلك.
وحذر تقرير نشرته مجموعة الأزمات الدولية، في العام 2021، من أن “انهيار المحادثات بين الجارتين، قد يجبر أثينا وأنقرة على الوقوع في مأزق أكثر توترا وخطورة من ذي قبل ما قد يساعدهم في تقلب الأوضاع بالمنطقة”.
وفي سبتمبر الماضي، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليونان بأن قواته “قد تأتي فجأة ذات ليلة واحدة”، مشيرًا إلى أنه لا يمكن استبعاد هجوم تركي على جارتها.
وقال في مؤتمر صحفي في العاصمة البوسنية سراييفو: “إذا كان ما قلته هو أننا يمكن أن نأتي ليلة واحدة فجأة فهذا يعني أنه عندما يحين الوقت، يمكننا أن نأتي فجأة ذات ليلة”.
ومن جانبه، رد وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس بالقول إن المسؤولين الأتراك يدلون منذ أيام بـ “تعليقات شنيعة” ضد اليونان، بما في ذلك تصريحات أردوغان التي قال إنها تشير إلى أن تركيا “يمكن أن تغزو” الجزر اليونانية.
وفي 27 نوفمبر 2019، وقعت تركيا وليبيا، مذكرتي تفاهم تتعلقان بالتعاون الأمني والعسكري وتحديد مناطق الصلاحية البحرية، بهدف حماية حقوق البلدين المنبثقة عن القانون الدولي.
وفي مايو الماضي، قال الدبيبة في مقابلة تلفزيونية: “فيما يتعلق بالاتفاقيات الموقعة بين بلدينا وخاصة تلك المتعلقة بترسيم الحدود البحرية، فإننا نؤكد أن هذه الاتفاقيات تقوم على أسس صحيحة وتخدم مصالح بلدينا”.
وأضاف: “نختلف مع اليونان في تقييم الاتفاقية البحرية الليبية التركية التي تخدم الليبيين، ولن نفرّط فيها”.
وبعد ذلك، قال وزير النفط بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، محمد عون، إن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة مع تركيا، أتاحت لبلاده “مساحات بحرية شاسعة للاستفادة منها”.
وفي شهر أكتوبر الماضي، أعلنت تركيا وليبيا عن توقيع مذكرة تفاهم بينهما في مجال الموارد الهيدروكربونية من “نفط وغاز طبيعي”.
وشدد وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو على أن مذكرة التفاهم للتعاون الأمني والعسكري الموقعة بين البلدين تعد حجر أساس هام في طريق الاستقرار، مؤكدا تصميم تركيا الكامل على تحويل البحر المتوسط إلى “بحر سلام” تستفيد منه جميع البلدان المتشاطئة.
وقال: “لذلك اقترح رئيسنا (رجب طيب أردوغان) على الاتحاد الأوروبي عقد مؤتمر مشترك لشرق المتوسط، والآن ننتظر جوابًا إيجابيًا من الاتحاد الأوروبي بهذا الخصوص”.
ولاقى الاتفاق التركي الليبي، رفضا من اليونان والاتحاد الأوروبي إضافة لتململ مصري.
رفض أوروبي
ومن جانبه، حث البرلمان الأوروبي السلطات الليبية على إلغاء مذكرة التفاهم الليبية-التركية لعام 2019 بشأن ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط.
كما دعا البرلمان الأوروبي-في سلسلة توصيات أصدرها بشأن ليبيا- الأطراف المعنية إلى عدم تنفيذ أي بند مدرج في الاتفاقية اللاحقة مع تركيا بشأن الموارد الهيدروكربونية الموقعة في الثالث من أكتوبر هذا العام.
رفضت حكومة الوحدة الوطنية الليبية توصيات البرلمان الأوروبي بخصوص مذكرات التفاهم مع الحكومة التركية.
تململ مصري
وفي أواخر نوفمبر، أعلنت مصر توقيع مذكرة تفاهم في مجال البحث والإنقاذ الجوي والبحري مع اليونان.
وقال المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية، في بيان عبر حسابه بفيسبوك: “في إطار دعم علاقات الشراكة والتعاون بين حكومتي مصر واليونان، قام الفريق أول محمد زكي القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي ونيكولاوس بانايوتوبولوس وزير الدفاع اليوناني بتوقيع مذكرة تفاهم في مجال البحث والإنقاذ الجوي والبحري بين الجانبين المصري واليوناني، وذلك بحضور سامح شكري وزير الخارجية المصري ونظيره اليوناني نيكوس ديندياس”.
وبشأن الرسالة التي تبعثها مذكرة التفاهم الأخيرة بين مصر واليونان إلى تركيا، قال وزير الخارجية اليوناني خلال مؤتمر صحفي مع نظيره المصري، “نرسل أيضاً رسالة واضحة مفادها بأن أفعالنا تستند دائماً إلى المعايير الدولية. تحت أي ظرف من الظروف، لا نحاول أبداً انتهاك سيادة الدول الأخرى أو حقوقها السيادية، على عكس ما يفعله الآخرون في المنطقة باستمرار”، وفقا لوسائل إعلام محلية.
وفي وقت سابق من العام 2021، أشار وزير الخارجية اليوناني إلى اتفاقيات مشتركة مع ليبيا، مؤكدا استعداد أثينا لتفعيلها وإبرام أخرى جديدة، وفقا لما ذكرته وكالة فرانس برس.
وأوضح ديندياس: “كنا قريبين عام 2010 من التوقيع مع ليبيا على اتفاقية مشتركة حول ترسيم الحدود البحرية، ولم يتبق سوى القليل للانتهاء من هذه الاتفاقية”.
وأبدى استعداد اليونان “لإبرام اتفاقيات جديدة للرفع من مستوى التعاون مع ليبيا”.
كيف تبلورت الاتفاقية؟
وفي السياق، اعتبر رئيس أركان القوات البحرية التركية السابق، الأميرال جهاد يايجي، أن مرحلة الاتفاقيات مع ليبيا تعود بداياتها إلى عام 2009.
وقال يايجي في مقال إن الاتفاقية تبلورت بناء على مقالة كتبها بعنوان “دور ليبيا وأثرها في تحديد الصلاحيات البحرية في شرق المتوسط”.
وأوضح الأميرال أن الرئيس أردوغان اتفق مع القذافي خلال لقائهما بطرابلس في نوفمبر 2010 على توقيع هذه الاتفاقية بعد اقتناعهما بأنها ستكسب الدولتين مجالات بحرية واسعة.
كما أصدر كلاهما “تعليمات للمسؤولين من البلدين للتحضير لتوقيع هذه الاتفاقية، لكن الاضطرابات التي شهدتها ليبيا وانتهت بانهيار نظام القذافي حالت دون توقيع الاتفاقية في ذلك الوقت”.
وأضاف الأميرال السابق التركي: “خلال فترة ما بين 2018 و2019 كانت قضية توقيع الاتفاقية مع ليبيا قد تم تناولها مجدداً من قبل الرئيس أردوغان الذي كان ضليعاً بهذه المسألة عارفاً بها”.
وأوضح أنه تم توقيع الاتفاقية في إسطنبول في يوم 27 نوفمبر 2019 تحت عنوان “مذكرة اتفاق بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبية حول تحديد نطاق الصلاحيات البحرية في البحر المتوسط”.
الدرع التركي
وأصبحت ليبيا وتركيا جارتين عبر البحر بفضل الاتفاقية الموقعة، فيما أطلق الغرب على مذكرة الاتفاقية اسم “الدرع التركي”.
وقال يايجي: “قلبت تركيا لوحة الشطرنج الجيوسياسية وأعادت ترتيب الأحجار في شرق المتوسط..
أعتقد أن أهمية هذه الاتفاقية التاريخية سيتم فهمها بشكل أفضل من قبل الأجيال القادمة”.
وتابع: “زادت مساحتنا الاقتصادية بنسبة تبلغ ربع المساحة الأرضية لبلادنا.. بهذه الاتفاقية تم تحديد نطاق صلاحية تركيا من الحدود الغربية في شرق المتوسط البالغة مساحة تركيا فيه 189 ألف كيلومتر وهو المنطقة الاقتصادية المنحصرة الخاصة بتركيا. وبالتالي فإن المساحة الاقتصادية لبلادنا (إذا وضعنا بعين الاعتبار أن مساحة أرض تركيا تبلغ 783.000 كم2) قد زادت بنسبة 25 بالمئة”.
وزاد: “بهذه الاتفاقية كسبت ليبيا في مجالها البحري 40.000 كم2 أكثر مما كان لو اتفقت مع اليونان.. لقد كسبت ليبيا بهذه الاتفاقية 16.000 كم2 من المجال البحري أكثر مما كانت ستحصل عليه لو اتفقت مع اليونان”.
وأردف: “إذا قامت ليبيا باتفاق مع اليونان في المرحلة المقبلة مستندة إلى هذه الاتفاقية التي أبرمتها مع تركيا؛ فإن مكسبها من المجال البحري يمكن أن يصل إلى 40.000 كم2 (بما يعادل 4 أضعاف مساحة جزيرة قبرص)، في ظل الادعاءات, بل المعلومات التي يتم تداولها حول أن هذا المجال البحري الذي كسبته ليبيا يحوي من الغاز الطبيعي ما تبلغ قيمته مليارات الدولارات”.
كما أكد الأميرال السابق أن “هذه الاتفاقية باتت نموذجاً يحتذى لسائر دول شرق المتوسط. فمصر لو أبرمت اتفاقاً مماثلاً لاتفاق ليبيا مع تركيا، فإنها ستكسب من المجال البحري ما يقارب 21.000 كم2 مقارنة بما ستكسبه لو أبرمت هذا الاتفاق مع اليونان. أما فلسطين وإسرائيل؛ فإن مكسبهما من إبرام هذا الاتفاق مع تركيا بدلاً من جمهورية قبرص الرومية الجنوبية يناهز 5000 كم2”.