العربي الجديد-
يتعاظم القلق الجزائري بشكل لافت، من التحشيد العسكري في جنوبي ليبيا على مقربة من الحدود الجزائرية، بين قوات حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وقوات حفتر.
هذا القلق من تحشيدات قوات حفتر خصوصاً عبّرت عنه وزارة الخارجية الجزائرية أخيراً ثلاث مرات في غضون أقل من أسبوع، ودعت كافة الأطراف الليبية إلى وقف كل مظاهر العسكرة التي تفتح باب الاقتتال بين الفرقاء. لكن ما يزعج الجزائر، إضافة إلى مخاطر التهديد الأمني المترتبة عن مواجهة مسلحة محتملة، هي المخاوف من أن تُحدث هذه المواجهة واقعاً أمنياً وسياسياً جديداً، يضع قوات حفتر والحكومة التي تتبعه، والتي لا تعترف بهما الجزائر، على تماس مباشر مع الجزائر، قد يفرض عليها التصرف بطرق مختلفة.
تحشيدات قوات حفتر تقلق الجزائر
ويسود اعتقاد غالب لدى المجتمع السياسي والعسكري في الجزائر، بأن هناك علاقة وثيقة بين تحشيدات حفتر والتوقيت السياسي الذي اختاره الأخير للتحرك نحو الجنوب الليبي، وبين الانتخابات الرئاسية في الجزائر، المقرّرة في سبتمبر المقبل، على خلفية أن هذا التدبير يعتبر أن هذا التوقيت مناسب لكون السلطة الجزائرية مشغولة بالانتخابات، وهذا يكرس قناعة بأن حملة حفتر تستهدف في غاياتها الأخرى بالنسبة للأطراف الراعية له، مناوشة الجزائر ومناكفتها في قضايا تخص أمنها القومي، ومحاصرتها بمزيد من التوترات الإقليمية، تزامناً مع الحرب في شمال مالي، وهي قناعة تفسر الانشغال الكبير الذي تبديه الجزائر على كل المستويات السياسية والعسكرية والأمنية بهذه التطورات
خلال الفترة الماضية، عملت الجزائر على توجيه رسائل سياسية غير معلنة إلى الأطراف الراعية لقوات حفتر، سواء عبر التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية أحمد عطاف، أو عبر القنوات الدبلوماسية غير معلنة، بشأن رفضها لأي محاولة لفرض أمر واقع وتغيير الخطوط، وهي رسائل كانت بالغة الوضوح بشأن الموقف الجزائري الرافض لأي تغيير للخطوط دون وجود توافقات سياسية بين الأطراف الليبية المعنية مباشرة بالأزمة، ومنعاً لكسر جهود الحل السياسي وإعادة بعث مسار الانتخابات في ليبيا.
وقال وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف خلال استقباله السفير الليبي في الجزائر صالح همه محمد بكده، الأحد (11 أغسطس 2024م)، إن “عمليات الحشد العسكري في اتجاه المناطق الغربية والجنوبية للبلاد تحمل أخطاراً محدقة بتجدد الاشتباكات والمواجهات بين الأطراف الليبية، تمس بأمن واستقرار جوارها الإقليمي”، بينما كان يتوجب بحسب رأيه “تسخير كل ما تملكه ليبيا من مقدرات ومقومات للإسراع بإنجاح العملية السياسية الهادفة إلى توحيد المؤسسات الليبية عن طريق انتخابات حرة وشفافة ونزيهة”.
وبرأي الكاتب المتخصص في الشأن الجيوسياسي سيف الدين قداش، فإن هذه الرسائل السياسية تكون وصلت لمن يهمهم الأمر. وقال قداش لـ”العربي الجديد”، إنه “بالنسبة للجزائر عسكرياً وسياسياً، فإن الخط الأحمر كان طرابلس ولا أعتقد بأنه سيكون هناك تسامح في ترك الوضع بعد تحشيدات قوات حفتر لإمكانية تثبيت الأخير لمليشياته على حدود البلاد وهو يؤدي دوراً وظيفياً ويأتمر بأمر قوى عربية وغربية معادية لمصالح واستقرار الدول العربية، وتتقاطع مع الكيان الصهيوني في اختراق العالم العربي والقارة الأفريقية وإشعال الأزمات فيها”.
وأضاف: “بالتأكيد لن يكون هناك تدخل عسكري جزائري، منعاً لأي إنهاك أو استنزاف قد يستهدف الجزائر مثلما يتم إنهاك واستنزاف روسيا في أوكرانيا، لكن ذلك لن يمنع الجزائر من توفير دعم لوجستي بأشكال مختلفة لتعزيز ودعم قوات حكومة الوحدة، وربما استخدام طرق مختلفة أخرى (الطيران مجهول المصدر)، لصدّ تقدم حفتر”.
ولفت قداش إلى أن تحشيدات قوات حفتر واختياره لهذا التوقيت لإطلاق حملته العسكرية ليس اعتباطياً. وقال حول ذلك: “اختيار هذا الظرف جاء لتطويق حكومة الوحدة والتقليل من دورها الجيوسياسي، خصوصاً بعد إطلاق مسار “لقاء قرطاج” بين كل من ليبيا ممثلة في المجلس الرئاسي في طرابلس، والجزائر وتونس، من جهة، ومن جهة ثانية لمحاولة استغلال ظروف الانتخابات الرئاسية في الجزائر، لجسّ النبض ورصد ردود الفعل ولبثّ القلق في قسم مهم من الحدود الشرقية للجزائر، ومحاولة جرّ الجزائر إلى مواقف استنزاف بعد فشل محاولة استنزافها بالحرب في شمال مالي”. وبرأيه، فإنه “ليس غريباً أن هناك معطيات عن دعم دولة خليجية بعينها (يقصد الإمارات) والتي يرتبط بها حفتر، وهي نفسها التي تدعم النظام الانتقالي في مالي الذي تلقى خسائر كبيرة في شمال البلاد على يد مقاتلي الأزواد، وهذا يمكن أن يجعل هدف تمدد حفتر، هو تطويق أزواد ودعم نظام باماكو، خصوصاً بعد تقارب حفتر ودول الساحل وانضمامه أخيراً إلى تجمع دول الساحل”.
أبعاد اقتصادية
لكن الأبعاد السياسية والأمنية لا تغطي وحدها مبررات تحشيدات قوات حفتر قرب الحدود الجزائرية، فثمة مبررات اقتصادية وبعدٌ يبدو أكثر أهمية ضمن حروب الطاقة، مدفوعة بأطراف دولية معنية بذلك، خصوصاً أن هذا التحرك جاء بعد فترة قصيرة من إعلان شركة المحروقات الجزائرية، سوناطراك، العودة للعمل في ليبيا واستئناف التنقيب في حقل غدامس والذي كانت تحوزه منذ ما قبل 2012، ولمنع هذا النشاط، إضافة الى تعطيل حركة المعبر التجاري الذي يربط بين الدبداب الجزائرية وغدامس الليبية، ومشروع المنطقة التجارية الحرة بين البلدين، وإحباط سلسلة تفاهمات تمت أخيراً بين حكومة البلدين وهيئات رجال الأعمال من الجزائر وليبيا ضمن تفاهمات “لقاء قرطاج” الثلاثي مع تونس.
وأبدى الباحث المتخصص في الشؤون الأمنية، والذي كان أعد دراسة حول الأمن في منطقة الساحل، عمار سيغة، تأييده لهذا الطرح، مؤكداً لـ”العربي الجديد”، أن “تحرك قوات حفتر نحو الحدود الجزائرية وإن كان تحت مبرر تأمين الحدود ومكافحة تهريب النفط ومواد الطاقة نحو الجنوب عبر المنفذ إلى النيجر، يحمل في طياته الكثير من الرسائل التي تستهدف بالأساس حوض غدامس المتاخم للحدود الجزائرية والغني بالغاز الطبيعي، والذي سيحرك حرب طاقة في المنطقة، لا سيما إذا دخلت الشركات الأجنبية على الخط”. وبرأيه، فإن “حفتر ومن وراءه، يعتقدون بأن التوقيت مناسب بسبب انشغال الجزائر بتنظيم انتخابات رئاسية، كما أن مخطط هؤلاء قد يذهب أبعد من ذلك في حال سيطرة قوات حفتر على الحدود مع الجزائر، باستغلال هذا الوضع لإعادة إثارة مشكلة الحدود بين ليبيا والجزائر والتي لم ترسم بشكل نهائي، خصوصاً أنه سبق لحفتر أن أطلق تصريحات معادية للجزائر”.
ويطرح سؤال حول الكيفية التي ستتصرف بها الجزائر إزاء هذه التطورات. وبالنسبة لسيغة، فإن “هذا الوضع سيدفع الجزائر إلى التصرف على مستويين: سياسي توظف فيه الجزائر المستوى الدبلوماسي سواء عبر البعثة الأممية أو العلاقات المباشرة مع الأطراف الراعية لحفتر للضغط عليه وثنيه عن الاستمرار بالعبث بأمن واستقرار ليبيا والمنطقة برمتها، وعلى محور الجزائر – طرابلس لدفع حكومة الدبيبة لكبح طموحات حفتر، والسيطرة على الوضع في الجنوب الغربي الليبي، والمستوى الميداني من خلال رفع جهوزية الجيش الجزائري على تلك الحدود، خصوصاً أن الجهة المقصودة جغرافياً هي العصب الاقتصادي الحسّاس بالنسبة للجزائر وتتربع على مساحة هامة من قواعد الغاز امتداداً من حاسي مسعود وصولاً إلى تيڨنتورين جنوب شرقي الجزائر (المنشأة التي تعرضت لهجوم إرهابي انطلاقا من جنوبي ليبيا في يناير 2013)، وتعد ضمن الخطوط الحمراء للجيش الجزائري والتي توليها الدوائر الأمنية في البلاد حماية وتغطية خاصة”.