عتبة للدخول
الكثير يعتقد إن ليبيا كانت على هامش التاريخ، وفي هذه الخانة سنجد الكثير من الليبيين، ممن يظنون إن ليبيا دولة حديثة التاريخ، وأن علاقاتها الخارجية لم تتعد محيطها الإقليمي، وإنها باختصار كانت بلاد معبر، لا بدر مقر.
*كتب/ رامز رمضان النويصري،
يمكنني بشكل شخصي أن أسجل قائمة من Hلأجوبة التي تعلل قصر هذه النظرة، منها انحسار عادة القراءة، وضعف آلة النشر، وضعف البحث ومراكز البحث في الرفع من وتيرة البحث في التاريخ الليبي، وهو ما اضطلع به مجموعة من الباحثين الجادين، الذين يتملكهم شغف البحث، ومنهم الدكتور مفيدة محمد جبران، التي نحتفي اليوم بكتابها (العلاقات الليبية الفرنسية السياسية والثقافية خلال القرن التاسع عشر الميلادي – 1800-1899).
وهنا أتوقف لتحيتها وهي التي أغرمت بطرابلس فبدأت رحلة البحث من مدينتها القديمة، ومعالمها التاريخية، ثم وسعت هذه الدائرة البحثية، للمشاركات الخارجية ونشر أبحاثها في الدوريات المحكمة، هذا الشغف بالتاريخ؛ نراه بوضوح حتى في كتاباتها الإبداعية، فتتحول الرموز والأحداث التاريخية إلى لوحات في نسيج النص.
العلاقات الليبية الفرنسية
العلاقات بين الدول، تعكس اهتمام أطراف كل دولة بالأخرى، بما تحتويه كل دولة من إرث سياسي وثقافي واقتصادي، للاستفادة منه بما يعود بالفائدة على كل طرف، وما يحقق له غاياته. والبحث التاريخي في العلاقات بين الدول، يتعدى حدود الدول إلى المحيط العام إقليمياً والانعكاس الداخلي لهذا المحيط، كما إن الفترة الزمنية مهمة لتحديد الأبعاد التاريخية لهذه العلاقات.
الكتاب الذي نحن بصدده الآن، يتناول العلاقات بين ليبيا وفرنسا، ويمكننا عند هذه الخطوة تصور وجود دولتين ثمة علاقة تربطهما، وهي علاقة سياسية، كما نفترض. لكن العنوان يحدد مستويات هذه العلاقات، فيعين مستويين لهذه العلاقات؛ سياسية، وثقافية. وينتهي العنوان إلى تحديد الفترة الزمنية أو تاريخ هذه العلاقات، وهي القرن التاسع عشر، وهي تحديداً الفترة من 1800 إلى العام 1899م، وهي فترة ليست مهمة إقليمياً، إنما على المستوى العالمي للأحداث التاريخية المهمة التي شهدتها المنطقة؛ أوروبا – أفريقيا، والعالم.
وهنا سنجد إن الكتاب، كبحث أو دراسة، يعتمد متغيرين أو معيارين للبحث:
– الأول: العلاقات السياسية والثقافية.
– الثاني: القرن التاسع عشر.
وبعيداً عن تحليل كل متغير، سنركز أكثر في التعرف إلى الكتاب وما يقدمه من معلومات. وبشكل عام، فالكتاب قسم إلى خمسة فصول وخاتمة، تناولت أكثر من مبحث في كل فصل والملاحق. إضافة إلى مجموعة كبيرة من المستندات.
الكتاب وكما تقول الكاتبة؛ دراسة تحليلية مراجعية مقارنة، مستفيدة من المادة المصدرية التي رصدتها الوثائق الفرنسية المتعلقة بتقارير القناصل والرحالة الفرنسيين والمتوفرة بمركز الدراسات التاريخية، والمادة المرجعية المتعلقة بالموضوع العربية والمترجمة.
الدخول للكتاب
تدخل الدكتورة مفيدة محمد جبران، هذه الدراسة من خلال فرضية مفادها (إن ليبيا لها مكانة ولها تأثير على مجريات الأمور الدولية في الفضاء المتوسطي، مما جعل فرنسا تعطيها اهتمامها وتقيم معها علاقات دبلوماسية وسياسية وثقافية تنصيرية. ولإثبات هل العلاقة بينهما علاقة ندية؟ متكافئة أو غير متكافئة. من خلال توضيح مسار العلاقات الليبية الفرنسية خلال هذا القرن، وتحليل دوافع العلاقة وتداعياتها). كما وترتكز الدراسة على مجموعة من النقاط المهمة، وهي في أساسها تساؤلات للبحث من خلالها، التي لخصتها الكاتبة في 5 نقاط:
(1) ما مدى انعكاس الأحداث العالمية على مسار العلاقات الليبية-الفرنسية خلال القرن التاسع عشر؟
(2) ما طبيعة العلاقة السياسية والثقافية بين الطرفين؟ وما تأثير القناصل فيها؟ وهل كان الباشا من الضعف بمكان حتى يخضع لتأثير وضغط القناصل؟ وماهي محاولاته للحد من نفوذهم؟
(3) ماهي المرجعية التي استندت عليها فرنسا في اتخاذها دور الوساطة الداخلية والخارجية؟
(4) ما الذي حاول الفرنسيون استكشافه في الصحراء الليبية؟ وماهي الأساليب التي اتبعوها في حصولهم على المعلومات؟ وما هي النوايا التي سعت إليها فرنسا؟
(5) ما هو الهدف الذي سعت إليه فرنسا من خلال فتح المدارس التنصيرية في إيالة طرابلس؟ وما هي خصائص التعليم في الولاية أنداك؟).
(جذور العلاقات السياسية بين ليبيا وفرنسا قبيل القرن التاسع عشر)، هو عنوان الفصل الأول للكتاب. والذي تناول مبحثه الأول فترة العهد العثماني الأول، عندما سيطرت البحرية العثمانية على حوض البحر الأبيض المتوسط، وتحول طرابلس إلى قاعدة بحرية. وتؤكد الباحثة أن الحكومة الطرابلسية لم تحبذ الاتجاه العدائي لفرنسا. حيث اتسمت العلاقات في الفترة الأخيرة من العهد العثماني بالهدوء النسبي من الناحية الحربية، كما جاء في تعبير الباحثة التي تشير إلى اتساع نفوذ القناصل في الداخل.
المبحث الثاني؛ تناول العهد القرمانلي 1711 إلى 1794م، حيث استطاع أحمد باشا القرمانلي كسب ود السلطنة وعقد علاقات مباشرة مع الدول الأوربية، منها إرساله لمندوبه إلى ملك فرنسا في أكتوبر من العام 1714م. لكن الأمر لم يخلوا من فترات توترت فيها العلاقات بين ليبيا، ممثلة في ولاية طرابلس، وفرنسا. وتستعرض الباحثة في هذا المبحث العلاقات مع الولاة الذي خلفوا الباشا أحمد القرمانلي.
الفصل الثاني جاء بعنوان (العلاقات السياسية الليبية الفرنسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر)، في المبحث الأول تناولت الدكتور جبران (العلاقات الدبلوماسية والسياسية – علاقات دبلوماسية)، حيث ركزت في هذا المبحث على العلاقات الدبلوماسية وتأثرها بالمحيط إقليميا ودولياً. حيث أوضحت في هذا المبحث الوضع السياسي لليبيا (إيالة طرابلس) وتأثره المباشر بالدولة العثمانية، وسعيها لبناء علاقات دولية، من خلال سرد تاريخي ماتع.
المبحث الثاني في هذا الفصل، جاء بعنوان (التنافس البريطاني الفرنسي وأثره على العلاقات الليبية-الفرنسية)، والذي تناولت فيه الصراع الفرنسي والبريطاني على بسط نفوذهما داخل إيالة طرابلس، كونها البوابة للدخول لاكتشاف أفريقيا.
تحت عنوان (وساطات فرنسا بين إيالة طرابلس والدول الأوروبية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر)، تتناول الأدوار التي اضطلعت بها فرنسا كوسيط بين ولاة إيالة طرابلس والدول الأوربية، من خلال الإجابة على سؤال: (ماهي المرجعية التي كانت تستند عليها فرنسا في هذه الوساطات؟ هل مكانتها المميزة في البلاط الطرابلسي لقنصلها، أو ازدياد قوة أسطولها في البحار؟ أم هناك سبب آخر؟).
في الفصل الثالث، تستمر الباحثة في عرضها للعلاقات الليبية الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والمعنون (العلاقات السياسية الليبية الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر). حيث تناول المبحث الأول من هذا الفصل (العلاقات السياسية في العهد العثماني الثاني 1835-1899م)، أما المبحث الثاني فتناول (موقف فرنسا من الثورات الداخلية بالإيالة).
تحت عنوان (العلاقات الثقافية الليبية- الفرنسية) جاء الفصل الرابع، حيث تناول المبحث الأول التوطئة الثقافية التي تعمد إليها الدول الأوربية قبل دخولها، والتي تركزت على البعثات التنصيرية. حيث عرض المبحث الواقع الثقافي في إيالة طرابلس والتعليم بشكل خاص. المبحث الثاني تناول دور القناصل وعلاقتهم بنشاط الرحالة في ولاية طرابلس، تحت عنوان (دور القناصل الفرنسيين بنشاط الرحالة في ولاية طرابلس). هذا وعرضت الباحثة بشيء من التفصيل؛ مقر إقامة القناصل الفرنسيين، وتاريخ إنشائه.
الفصل الخامس والأخير، جاء بعنوان (الرحلات الاستكشافية الفرنسية من سنة 1821م إلى 1896م) وهو من الفصول الشيقة بما يحوي من معلومات الرحالة الذين اتخذوا من ليبيا مدخلا لاستكشاف أفريقيا.
ففي المبحث الأول (الرحلات الاستكشافية)، تناولت الباحثة الأهداف من هذه الرحلات، التي كانت تسير تحت شعار الرحلات الاستكشافية العلمية، والجهات التي كانت تقوم عليها، وسياسة الرحالة في التعامل مع سكان المنطقة. وهذا المبحث غني بالتعريف بهذه الرحلات الاستكشافية وأسماء الرحالة.
المبحث الثاني عرضت فيه الباحثة رؤيتها في هذه الرحلات، فكان العنوان (رؤيتنا في الرحلات الاستكشافية)، مستعرضة إيجابيات وسلبيات هذه الرحلات وأثرها في الدراسات وتوفير الكثير من المعلومات.
وهنا نصل إلى الخاتمة، التي لخصت فيها الدكتورة مفيدة محمد جبران، ما توصلت إليه من نتائج خلال هذه الدراسة الغنية بالمعلومات، والتي سيكتشف القارئ لها حجم الجهد الذي بذلته الدكتورة مفيدة محمد جبران، سواء على مستوى البحث التاريخي، وتتبع الأحداث التاريخية، من خلال البحث في المراجع. وكذلك الجهد المبذول في تجميع المادة العلمية لهذا البحث، كما إن الباحثة وفقت في طريقة عرض هذا الجهد من خلال فصول الكتاب. هذا ودعمت الباحثة كتابها بمجموعة من الصور لوثائق ذات علاقة بموضوع البحث، والتي يشي حجمها بأنها أخذت من جهدها الكثير، بحثاً واطلاعاً وترجمة، ومراجعة وتحقيقاً. ولعل المتتبع لمسيرة الباحثة سيتضح له جلياً الصبر والدأب على البحث، والتنافسية العالية، التي تجعلها تفوز في كل التحديات العلمية التي تدخلها.
أخيرًا…
هذا الكتاب إضافة مهمة للكتب التاريخية في ليبيا، ودعوة لمزيد الدراسات التي تبحث في التاريخ الليبي، وخاصة علاقات هذا البلد بمحيطه وتأثيره على المستويين الإقليمي والعالمي. في الختام، أستعير من الباحثة مفيدة محمد جبران، قولها:
(وأخيراً فأن الاستنتاج الأهم: الذي توصلت إليه من خلال ما تم عرضه من معلومات، أن علاقة الإيالة الطرابلسية بالدولة الفرنسية، هي علاقة برزت فيها ليبيا في أحداث البحر الأبيض المتوسط، بأنها دولة تدافع عن الإسلام كدولة لها قوتها ووزنها، فدور الجهاد البحري الذي لعبته منحها الهيبة السياسية والرهبة العسكرية التي مكنتها من التأثير على مجريات الأمور الدولية في الفضاء المتوسطي والأفريقي عسكريا واقتصاديا، مما جعل فرنسا تعطيها اهتمامها وتقيم معها علاقات دبلوماسية وسياسية وثقافية سعيا لتحقيق أهدافها.
أما فرنسا فقد برزت في تحقيق المسألة الشرقية في هذه الولاية من خلال تشجيع انفصال واستقلال هذه الولاية عن الدولة العثمانية؛ لإضعافها ليسهل ابتلاعها من خلال استيعاب وإبقاء الولاية تدور في فلكها، وربطها بمجموعة من الاتفاقيات في مختلف المجالات، بالترغيب أحياناً وبالترهيب أحياناً أخرى. بذلك أظهرت الدراسة الأبعاد السياسية والكشفية والثقافية التي سعت إليها فرنسا لتمكنها من السيطرة على هذا القطر.
وإن طرابلس (ليبيا) هي دولة لها تاريخ ذو أصالة عريقة جمعت ما بين انفتاحها اقتصاديا على جميع الدول المجاورة من خلال علاقاتها البحرية والبرية، والذي انعكس على حركة العمران التي اتسعت وتميزت بأنها عمارة جمعت ما بين الخصوصية الإسلامية والعرف المحلي، وبين الحضارات الوافدة عليها، فكان نتاجها طرازا معماريا بديعا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** نشر على موقع بلد الطيوب، الجمعة 29 يوليو 2022م