* كتب/ علي محمد البشير،
أيام كثيرة مرّت على ليبيا، تفاوتت شدة ورخاء، وتعاسة وسعادة، لكن أبرزها وأطيبها وأقربها إلى عقول وقلوب الخيرين: يوم إعلان الاستقلال، ذلكم الحدث السعيد، الذي يحبه ويحنّ إليه شوقا وصبابة شرفاءُ الوطن، دون استثناء، في شرقه وغربه وجنوبه وشماله وكل أنحائه، حتى الذين يكابرون -لشيء خفيّ أو معلن- يعرفون قيمته، وقيمة الرجال الذين تحقق على أيديهم، ويجدون في ألوان ورمزية رايته التي مثلت واختزلت حكاية طويلة الأبواب والفصول، ما لا يجدون فيما صنعوا من رايات وأعلام.
الاستقلال ذكرى وتاريخ، ورموز تركيبة تجمعنا، وتكفكف كثيرا من غلواء العداء والبغضاء، ونعرات العرقية والجهوية والحروب التي يوقدها ويلهب نارها من نعرفُ ومن لا نعرف، من الغرباء والدخلاء وأبناء جلدتنا الخبثاء، ممن أعمى الحقد أبصارهم وبصائرهم، وفي المحصلة: جميعنا تعبث بنا يدٌ سوداء، لا همّ لها إلا فرقة تظل نارها مستعرة، ليروا من ورائها خرائب الوطن، وأبناءه ما بين المحن والإحن، ولا قيمة للزمن.
لقد حقق الأجداد حلما، وانتزعوا حقا، ودخلوا لعبة أكبر منهم؛ لكنهم كانوا يصرّون على أمرين مهمّين: استقلال البلاد. ووحدتها، في كل الأروقة والمناسبات والعواصم.
نعم كانت بينهم خلافات وسجالات وحتى مناكفات إن بقي شيء منها فهو لا يرد إلا في دائرة النوادر والطرائف، ويكفي ما كان منهم من تضحيات، وما تحقق على أيديهم خلال مدّة وجيزة شكلت تحدياً كبيرا وخطيرا، دستور ومؤسسات مدنية وعسكرية معتبرة وخطوات في الطريق نحو الاستقرار والبناء ضيعتها أحلام ومغامرات من تطفلوا على المؤسسة العسكرية، لينقضُوا عُرَى الدولة الليبية عروة عروة، ويشبعوا شهوات الحكم، التي ملأت نفوسهم، وفاضت حتى أعمت قلوبهم وعقولهم، حاولوا تمويهها وتغليفها وتسويقها بشعارات ومسميات صيغت لهم في قوالب مضحكة مبكية، وقف الناس على عواقبها عند أول تجاربها.
انقلاب، قلب الأمور راساً على عقب، وأدخل البلاد فيما لا نجد لها وصفا سوى أنها (دوامة ومنزلق نحو مجهول مرعب) أبرز مكوناته: حكم فرديّ مزاجيّ مطلق، وضياع مقدرات البلاد، في ظل استقرار صوريّ زائف، واستفاق بعض من عقلاء العسكر في مراحل مختلفة، لكن الوقت كان قد فات و(الصيف ضيعت اللبن) ثم تكشفت الشواهد والحقائق، وأيقن الكل بحجم الكارثة، وكانت الثورة الكبرى، وكان مستوى انفجارها بحجم وطأة الكبت والرهبوت الذي جثم على القلوب، وأثمر الحقد أحقادا، والثأر ثارات، والظلم ظلمات، وما زلنا نكابد الأمرّ ونلملم الجراح ونعالج الآثار.
ومع كل هذا فإننا نجد في هذا اليوم، لمسة حانية، وأريحية هادئة، وهمسة من ذكرى تلقي في آذاننا كلمات تمسّ وجداننا، كأنها يدٌ تربت على كتف شارد حائر وتشير ببنانها إلى صندوق تحت غطائه أمانة، ووصية من أب ذاق أبناؤه مرارة فقده بعد عقوقهم إياه.
يذكر شرفاء وعقلاء ليبيا في هذا اليوم السيد محمد إدريس السنوسيّ ملك البلاد، الذي كان في طليعة وعلى رأس الرجال الذين أسسوا الدولة الليبية الحديثة، إدريس السنوسي الذي شوّه الانقلابيون تاريخه وتاريخ من كانوا معه، وافتروا عليهم ما لم يكن منهم، وجعلوا ذلك تاريخا ومنهجا دراسيا، يمحو آثار الصالحين، ويقطع صلة الأجيال، ويلوث براءة الناشئين، ويغرس في أذهانهم بذور العقوق والإساءة ونكران الجميل، ولعن الآباء والأجداد.
رحم الله إدريس السنوسي، كان سياسيا حكيما، ورجلا فيه صلاح ومحبة لوطنه وقومه، وإن كانت له هفواته وأخطاؤه، لكنها لا تدينه ولا تجرّمه، ولا تمس هيبته وسمعته، فما كان -رحمه الله- جباراً أو حاقدا، أو مغامراً، أو طائشا عابثاً، وما كان عنتريا استعراضيا أمام الكاميرات والميكروفونات وحشود المرغمين على الحضور، كان يدرك ما حوله من لعبة الأمم، ويجيد فنّ التعامل معها بما يحقق مصلحة الوطن، وكان له منهجه وطريقته واحترامه، والحكم عليه وعلى تاريخه وعهده لا يؤخذ إلا من أفواه وأسطر الدارسين والباحثين المتخصصين.
الملك إدريس رحمه الله – كان قليل الكلام، لكنك تجد في كلامه بوضوح وجلاء، روح ذلك الجيل، وبُعد النظر، وخلاصة التجارب، وتكفيه تلك الكلمة الطيبة: “المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله”.
رحم الله آباءنا رموز الجهاد وصنّاع دولة الاستقلال؛ الذين مهدوا لنا الطريق نحو غد واعد، نجني نحن ثمراته وبركاته بما يكون من أمان واستقرار ورفاه، رأوا في ذلك خير عوضٍ لهم عن كل ما لقوه وعانوه من معاناة وظلم وحرمان.
______________________________________________
*وزير الأوقاف الأسبق