نص المقابلة التي نشرتها صحيفة الناس مع الراحل “عبدالله شرف الدين” نقيب الصحفيين الليبيين في الستينيات
(الناس)- في هدوء أدركت المنية المحامي الليبي المخضرم “عبدالله شرف الدين” في المهجر بمصر، عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاما..
وكانت صحيفة الناس قد أجرت مقابلة مطولة مع الراحل أثناء حضوره ملتقى للمحامين بمصراتة في بداية 2013، تحدث فيها عن رحلة كفاحه في مهنة المحاماة، وهذا هو نص المقابلة.
عبد الله شرف الدين.. مخلوق من أيها الناس
شرف الدين: لو ضمنت هذه النقطة في الدستور فلن أخشى من الاستبداد من أي كان
بدأ حياته متمردا، يرفض الذهاب إلى المدرسة ويفضل العمل في “النول” والبحر، وبلغ ذروة تمرده حين أخذ السلاح من السفارة المصرية في ليبيا عقب العدوان الثلاثي على مصر 1956 لتفجير بعض المقرات الحكومية في بلده، وواصل صدامه عقب توليه مسؤولية النقيب العام للمحامين الليبيين 1967، ليتحدى انقلابيي 1969، على مدى سبع سنوات، حتى رسالته الشهيرة للقذافي 1976 في مؤتمر الشعب العام، التي كادت تنهي مسيرته الحياتية، ودفع ثمنها المشرف ثلاثين عاما من الغربة..
***
تخرج الأستاذ عبد الله شرف الدين من المدرسة الابتدائية طرابلس سنة 1937، وكانت رغبة أسرته أن يدرس في المدرسة الإسلامية العليا التي كانت ستؤهله ليصبح معلما، لكنه رفض توجيهات العائلة وتوجه للعمل في “النول” صباحا، والعمل كبحار في المساء، ثم تنقل بين عدة أعمال يفتك بها لقمة عيشه من عرق جبينه، لكنه عاد أخيرا للدراسة بفضل الرسالة: “الذي أعادني للدراسة بعد ذلك أخي الأكبر، الذي كان يعمل بمدينة (كانو)- نيجيريا، وكان مشتركا بمجلة الرسالة، فشدتني المجلة بداية بما كانت تنشره من أساطير: “رأس الغول”، “الجارية تودد” وغيرها، كذلك الكتب المترجمة: “قصة مدينتين”، “كوخ العم توم”، ثم انتقلت إلى مقالات الرافعي، طه حسين، توفيق الحكيم، المازني، وأحمد أمين وآخرين، فرجعت إلى نفسي وصرت أفكر جديا في العودة إلى التعليم”.
***
تقدم شرف الدين عقب افتتاح أول ثانوية في طرابلس بعد الحرب عام 1945، وقُبل بشروط، فأثبت جدارته، وتفوق على أقرانه، حيث نال الترتيب الأول في ثاني سنوات دراسته، وكان واحدا من ثمانية وصلوا للسنة النهائية من ضمن ثلاثين طالبا التحقوا بالمدرسة في السنة الأولى، وكان على أعتاب الحصول على بعثة دراسية إلى بريطانيا، لكن العمل الوطني ضد الإنجليز أوقعه وزملاءه في مأزق: “في تلك السنة صرنا نعمل مع المناضل بشير السعداوي، ومرة حضرنا مؤتمرا حصل فيه هجوم جريء من زميلين لنا على الإدارة البريطانية، فقرر وزير المعارف (الانجليزي) فصل الزميلين، فاحتججنا ورفضنا الدخول للفصل إلا بإعادتهم، وبعد عديد الوساطات والمحاولات اصطدمنا برفض مطلق لأي تراجع”.
ثبت الشباب الستة على موقفهم، وتركوا المدرسة وهم على أعتاب التخرج، وقرروا السفر إلى مصر لاستكمال دراستهم، وعانوا الأمرين حتى وصلوا إلى هناك: “جعنا وتعبنا، كانت رحلتنا في مايو، وكنا ننام على الحصير ونتوسد أحذيتنا، وفي كل صباح جديد كان اثنان منا يذهبون لوزارة المعارف المصرية، واثنان للجامعة العربية، واثنان للسيد (بن قدارة) رئيس المصرف العربي في ذلك الوقت، وهو صديق للسعداوي بعثنا إليه لمساعدتنا، وأخيرا قبلنا في مدرسة داخلية بأقاصي الصعيد، كانت تضم طلابا من السودان ومصر وليبيا ومالي وأريتريا وجنسيات أخرى، وكان مدير المدرسة يقدّرنا بشكل خاص، وبادلناه التقدير بتفوقنا، وتحسنت ظروفنا المعيشية طبعا بعد أن صرنا نأكل ونسكن ونتعلم مجانا، فمصر مهما عملت لا أوفيها حقها”.
***
عاد عبد الله شرف الدين إلى بلاده عقب الاستقلال، ورغب في استكمال دراسته وتحضير الدكتوراه، إلا أن البلاد كانت محتاجة للكوادر، ولم تكن لتفرط به، فأشار عليه البعض بالذهاب إلى الخارجية والعمل بها، وسوف تواتيه الفرصة لإكمال دراسته لاحقا ففعل، إلا أن تعاطفه مع مصر عقب العدوان الثلاثي 1956 جعله يستلم متفجرات من السفارة المصرية ويشارك آخرين في تفجير بعض المرافق العامة، وقبض عليه وبقي رهن الاعتقال ثم السجن قرابة سنة، عقبها امتهن المحاماة.
في سنة 1962 تشكلت نقابة المحامين الليبيين وتولى السيد “علي رجب” أول نقيب عام لها، ثم السيد عز الدين أبو راوي، وفي 1967 تولى السيد عبد الله شرف الدين نقيب عام المحامين الليبيين وعن تلك الفترة يقول: “كانت مهنة المحاماة في العهد الملكي رائعة، رغم أننا اصطدمنا كثيرا مع النظام، لكنه كان نظاما مثاليا، ولو لم تأت كارثة 1969 لكانت ليبيا في مقدمة الدول، كان هناك تشجيع للعلم، وكان القضاء يسير بشكل رائع”.
1969
وأتت كارثة 1969 –حسب وصف الضيف- فاعتقل عشرة من المحامين، ثم ما كان من أمر مؤتمر الخرطوم للمحامين العرب، حيث اجتمعت النقابة لترشيح من يشارك هناك، فمنعوا من السفر، فبعثوا رسالة إلى الخرطوم ذكروا فيها أن هناك منعا من السلطات القائمة للسفر، واستمرت المؤتمرات واستمر المنع: “بعد مؤتمر الخرطوم بسنة كان هناك مؤتمر آخر في تونس، وتوجهت إليه رفقة المحامي “حسني الطويبي” عضو النقابة، وكان السفر مسموحا به في ذلك الوقت، فصعد زميلي فيما أوقفت وأنا في طريقي للطائرة وأخبروني أني ممنوع من السفر، ثم لحقوا بزميلي وأنزلوه من الطائرة، وطارت أمتعتنا إلى العاصمة التونسية، فانفجرت في وجه الذين منعوني من السفر وشتمتهم..
بعد ذلك أخبرت أنهم قرروا إرسال قاض من محكمة الاستئناف لحضور مؤتمر المحامين، فطلبت من “الطويبي” أن يذهب إلى وزير الداخلية ويخبره أن هذا الأمر غير مقبول، وسأبعث ببرقية إلى المؤتمر بأن لا يقبلوا هؤلاء كممثلين عنا.. وفي نفس الليلة ألغيت النقابة بقرار من مجلس قيادة الثورة!!”.
صفعة..
بذل المحامون جهدا كبير لإعادة النقابة، وبعثوا برقيات متعددة إلى أنحاء العالم، وحدثت عليها ضجة كبيرة، وحاول النظام التحايل فعين مندوبا من الادعاء وآخر من المحكمة لتمثيل النقابة إلا أن المحامين رفضوا التعامل معهم.. وأخيرا اضطر مجلس قيادة الثورة لإعادة النقابة، وتنظيم انتخابات لها مع التوصية على عدم انتخاب “عبد الله شرف الدين”.. وتلقى النظام صفعة كبيرة حين انتخب نفس المجلس المنحل للنقابة من جديد وانتخب “عبد الله شرف الدين” نقيبا، وكان أجمل المواقف التي وقفها المحامون– يقول شرف الدين.
لقاء مع القذافي
ثم كان الصدام مجددا: “أول صدام حقيقي بيننا وبين القذافي عندما تكلم السيد “عبد الحميد البكوش” من مصر وقال إن ليبيا تسير بدون قانون، فطلب القذافي الاجتماع بنا، فكالمت المرحوم “عامر الدغيس” أننا ذاهبون إلى القذافي وقد نعود أو لا نعود..
التقيناه، وأذكر أن زميلي “عبد الحميد الميت” وضع رجلا على رجل وكانت قدمه في وجه القذافي، وكنت أغمزه لكي يكف.. تحدث القذافي عن “البكوش” وتصريحاته، وطلب منا التوقيع على بيان كان أعده مسبقا للرد على “البكوش”، وكان علينا الخروج من هذا المأزق.
كانت وزارة العدل قد طالبتنا قبل أسبوعين بالرد، فامتنعنا بحجة أن “البكوش” لم يعد عضوا بنقابتنا، فاستدعيت الواقعة وقلت للقذافي أن هذا الموضوع عرض سابقا على النقابة ورفضته، وإنني لا أستطيع أن أضع 200 محامي في ظهري، كما أن وزارة الداخلية خاطبتنا بأن لا علاقة لنا بالشؤون السياسية، فثارت ثائرة القذافي وأخذ يهدد ويتوعد ويزبد ويرعد، فأخبرته أن من حق وزير العدل دعوة الجمعية العمومية للنقابة للانعقاد للنظر في الأمر، ثم غادرنا وقد رفض مصافحتنا ونحن نخرج”.
قاعدة البحارة
“في اليوم التالي لهذه المقابلة غادر (عبد الحميد الميت) أرض الوطن وقد أحس بالخطر، وبعد خمسة عشر يوما سافرت، وسمعت أن مجلس النقابة قد استدعي وهدد، وأجبر على التوقيع على البيان، وعندما عدت ساءلتهم ووبختهم، وقررت الاستقالة من منصبي كنقيب للمحامين، وكما أشرت سابقا، فأنا بحار، والقاعدة عندنا أن رايس البحر إن تمرد عليه البحارة ولم يستطع السيطرة عليهم، فيجب أن يدع الدفة لغيره، وأنا تمرد علي الأعضاء ويجب أن أترك”.
7 أبريل
كانت هناك حادثة أخرى وموقف آخر للنقابة ذكرها المحامي “عمران أبورويص” الذي وثق لمسيرة محامي ليبيا في كتب، وحصلت سنة 1976، وهي برقية احتجاج من المحامين على أحداث 7 أبريل، شارك في صياغتها المحامي “فتحي أبو هادي”، ونقلها إلى طرابلس المرحوم “السنوسي بادي”، وسلمها السيد “عبد الله شرف الدين” للقذافي في مؤتمر الشعب العام، فمزقها وقال هذه مكانها سلة المهملات وعن هذه الرسالة يقول ضيفنا: “كانت رسالة وصلت من زملائنا المحامين في بنغازي، وكان هناك انعقاد لمؤتمر الشعب العام في سبها، وكنت أحاول التداخل فأمنع، ورفضوا إعطائي الكلمة نهائيا، فطلب مني بعض الزملاء أن أخبرهم بما أود قوله ليقولوه عني، ثم وصلتني البرقية فسلمتها للقذافي على الملأ، فمزقها وحدثت عليها مشاكل كثيرة”.
“احنيش” قتل “الدغيس”
صار الأستاذ “عبد الله شرف الدين” في خطر، خاصة بعد اغتيال زميله “عامر الدغيس” الذي كان من الواضح من كلامه أنه يكن له الكثير من الاحترام والود: “الدغيس كان يقول إنه لا يترك بلاده للغوغاء، وعندما ناداه خليفة احنيش وهدده، ذهبت إليه في المزرعة وقلت له إنه يجب أن يغادر البلاد، قال لي إننا في شهر فبراير، وسأنتظر حتى مايو عندما ينهي الأولاد دراستهم ثم سأغادر، لكن “احنيش” لم يمهله، فاستدعاه مجددا وقتله.. لقد كان هناك خط معروف في تلك الفترة، مفاده أن القوميين لابد من محوهم من الوجود، وكانت الصهيونية العالمية خلف هذه الاغتيالات، وأعرف أن أكثر من عشر قيادات للقوميين من سوريا ولبنان وغيرهم قتلوا جميعا في نفس السنة..
جاءني زميلي “عبد الرحمن الفيتوري” بخبر اغتيال “الدغيس” وعلمت أن دوري هو القادم وعزمت على المغادرة، فيما صرت أفكر هل أحضر جنازة الدغيس أم لا؟”.
الخروج
راح “شرف الدين” إلى المطار في اليوم التالي، فمنع من السفر، فانفجر في وجوههم مجددا، واتهمهم بأنهم سيضيعون مستقبل البلد، فأفادوه بأن لديهم رسالة بمنعه من السفر، وحاول الاتصال بصديق له كان يساعده من قبل فلم يجده، فاستلم جواز سفره وقرر المغادرة برا عبر الصحراء، ثم وهو خارج من المطار: “كان لي صديق يعمل في الخطوط التونسية، صادفته فاستفسر عن سبب عدم سفري، فأخبرته، فساعدني في الوصول إلى صديقي (الغزالي) الذي كان يسهل لي الإجراءات، فاتصل بأمن المطار، فأطلعوه على الرسالة، فعندما رأيتها أخبرتهم أنها قديمة وأنني سافرت بعدها وأثبتت لهم ذلك، لكن الطائرة كانت قد غادرت..
مضيفة طيران في إحدى الشركات التي كنت أعمل مندوبا لها في ليبيا ساعدتني في الصعود على متن طائرة أخرى في نفس اليوم متجهة إلى بريطانيا”.
لئلا يعود الاستبداد
وبعد ثلاثة عقود عاد، ففي عام 2009 شجعه السيد “محمد الزوي” أمين مؤتمر الشعب العام في ذلك الوقت، والسيد “سامي الزليتني”، على العودة، بعد أن أقنعوه أن “سيف القذافي” يحاول إعادة الأمور إلى نصابها، وأن يصنع وضعا ديمقراطيا، وكتبت له الأقدار أن يعاصر ثورة السابع عشر من فبراير ويفاجأ –حسب قوله- بكلمة “سيف” التي ألقاها في بدايات الثورة، لكنه لا يتوقف عندها ويتمنى أن يكون لأصحاب مهنته دور في مستقبل ليبيا يقول: “الأمل الكبير أن يكون للمحامين دور كبير في الدستور، وأهم نقطة عليهم التمسك بها أن يدرج نص غير قابل للتعديل، وهو أن الحاكم أو رأس الدولة وحتى أعضاء مجلس النواب يكون لديهم فترتين لا تتجاوز الواحدة 4 سنوات، وممنوع أن تجدد بعدها، فهذه هي القفزة التي قفزت بها الدول الكبرى إلا أن الكارثة التي حصلت في الدول العربية أن الحاكم غير محدود المدة، ويلتف حوله أصحاب المصالح ويزينون له البقاء لتحقيق مآربهم، ويزورون له كل شيء لخدمة مصالحهم، لكن عندما يوضع هذا النص لن تتكرر المأساة مرة أخرى، فأملي في شباب المحامين أن يكون لهم دور في ذلك، ولو ضمنت هذه النقطة في الدستور فلن أخشى من الاستبداد من أي كان”.
الصدام الأخير
فهذه لمحات من مسيرة محام على مدى خمسة عقود ونيف، امتلأت بالصدامات، وربما لازال يعشق الصدام حتى الآن، فهو صاحب مؤلفات ستثير الجدل عند نشرها، فمما أطلعنا عليه كتابه “يوميات مواطن من أيها الناس” الذي ضمنه سيرته الذاتية، وكتابه الآخر: “الطريق إلى وحدة البشرية”، وفي هذا الأخير يتطرق المؤلف إلى مسائل جدلية، فهو يرى أن الإسلام مشوه تشويها كبيرا: “الإسلام له معنى عميق جدا، فعندما نتجه إلى الكعبة جميعا في صلاتنا من أي بقعة من الأرض كنا، فهذا له معنى وحدوي، والصيام أيضا يرمز للوحدة فالناس يشعرون بالوحدة عندما يتألمون معا ويفرحون معا، وفي الحج أيضا عندما تذهب إليه سواء كنت ملكا أو فقيرا معدما، الكل لباسهم واحدا، ولن تجد هذا المعنى في الأديان الأخرى، لكننا ابتعدنا عن هذه المعاني وأخذنا المظاهر، وهذا للأسف من الإسرائيليات ومن التشدد في غير محله”.
ويثير ضيفنا موضوعا قد يكون صادما للبعض حين يناقش في حرمة الخمر يقول: “إنني مستعد لمناقشة أي أحد في الخمر، الخمر ليس حراما، وكل نقاشي سيكون بالقرآن وليس بالكلام، فكيف يعدنا ربنا بالخمر في الجنة إن لذلك معنى كبير.. الله تعالي يقول “لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”. صدق الله العظيم.. نعم السكر حرام، ولكن شرب القليل حلال”.
يقول المؤلف هنا أنه ذهب إلى تفاسير ابن كثير والطبري وغيرها وبحث في تفسير الآيات: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”، وبعد ذلك: “ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا أو شربوا”. صدق الله العظيم، ويقول المؤلف إنه بمطالعته ومناقشته وجد أن الاستثناء لا يأتي في السابق وإنما في المستقبل، ثم يتذكر مهنة المحاماة فيقول: “وهذه قاعدة قانونية يعلمها الجميع، فكيف يقولون أن هذه يتكلم فيها عن السابق؟”.