*كتب/ محمد بن طاهر
التاسع من القرن الحاضر مع شمس أغسطس الملتهبة.. نزلت باريس لأول مرة في عمري المنصرم.. كنت حينها شابا في منتصف الثلاثينات.. بونجوغ مسيو.. قال الشاب الفرنسي عند استقبالنا في فندق ليون بضواحي باريس..
وضعني السائق المغربي المكلف بصحبتي من مطار -الجنرال الشرس شارل ديغول اليساري المحارب- إلى السفارة.. كان خميساً صيفياً معتدلاً.. الجمعة مساء حطت رحال القطار السريع TGV بعد أربع ساعات متواصلة في بيزنسون وجهة إقامتي.. تلك المدينة الخضراء الوافرة المدسوسة بين أربعة جبال.. التي يقطع أوصالها نهر الدو المتعرج على شكل حذوة حصان، يحضن وسطها الناهض بمباني عليها مسحة أزمان غابرة.. مدينة عشقتها وعشقتني.. أكلت من عمري ست سنوات ونصف متتالية.. شهدت على قصص كثيرة في حياتي.. فرح وحزن سعادة وتعاسة مثابرة وجد.. ختمت بنيلي للدكتوراه من جنوب فرنسا على الحدود الإسبانية.. عدت يومها لبيزنسون والفرح يغمرني.. القلق أخذ مكانه عندي.. الرجوع للوطن المكلوم حينها.. كان خياراً لا فرار منه..
رجعت من غربتي لغربتي.. الأهل والأصدقاء والأحباب زادي ومعونتي.. رجعت لمهنتي بين طلابي.. ما كان يعطى لنا مقابل احتراقنا فتات وبقايا السُراق عشية سقوط القذافي.. وما تركه الممشوط على أرفف البلاد المنهوبة.. الأسعار خيال والإفقار ممنهج.. ضربت رأسي في حائط المبكى.. وتسألت ألهذا خرجنا على النظام؟ ألهذا بُحت حناجرنا شهوراً متواصلة في ساحات المدن الفرنسية.. ألهذا أوقفنا دراستنا وظللنا نجمع التوقيعات من المارة أمامنا مطالبين بموقف دولي شعبي من النظام ورأسه؟
أسئلة تدور في رأسي المثقل بالهموم.. ظللت أترقب من ثقب الباب الموصد في وجهي باحثاً عن مهرب.. حانت الفرصة كي أتوجه شرقاً في رحلة الغربة الثانية.. وكأن الغربة ربطت في رجلي التائهة عبر الأوطان.. درس جديد بلد ناهض..
قطر كانت الوجهة الجديدة وأنا أعبر بعمري منتصف الأربعينات كهل غائر في حروف محترقة.. الطقس البشر الثقافة الحياة برمتها غربة جديدة.. ما يشد جائشي هو سرعة تكيفي من المحيط جبلت على ذلك.. غربة عمل وليست دراسة.. قالت أمي ما صدقنا روحت يا احميده بتسافر.. ثلاثة سنوات ونصف فصلت بين غربتين.. الخليج العربي كان هادئاً مطلع شهر يونيو من العام التاسع عشر بعد الألفين.. على جميع الركاب الانتباه سنبدأ في الهبوط التدريجي نحو مطار حمد في الدوحة العاصمة القطرية.. قال ليلتها كابتن طائرة الخطوط القطرية المنطلقة من تونس.. في رحلة لامست الست ساعات متواصلة.. كان الليل قد جن والطقس ساخن جداً حد القلق والرطوبة تنخر العظام الساكنة بأجسامنا الواهنة.. تركت خلفي بلدا غارقا في الحرب والدماء والظلام ليبيا.. قطر التي زرتها سريعاً قبل ذلك في شهر أغسطس العام الذي مضى.. حركة البناء فيها مجنونة كل يوم ينهض معمار جديد.. تشق طريق تركب جسور تحفر أنفاق، ينجز ملعب لكرة القدم، تُخضر مساحات كانت قِفارا تُشجر حواف الطرقات..
استعدادات على قدم وشاق لاستقبال كأس العالم 2022.. تحولت قطر لدولة عصرية مواكبة للعالم المتطور في كل شيء.. بكيت على حالنا بشدة.. ليبيا التي تبادل عليها ثلة من الجائعين أكلوا لحمها وتركوا عظامها تغطيها رمالها الممتدة على أفق البصر.. ليبيا الوطن الذي يسافر معنا ونسافر فيه.. الكره والحرب والموت بالمجان.. هناك حيث ينام القلب ويصحو.. كلما مررت بشيء جميل هناك ندبت حظنا العاثر.. الغربة موت بطيء سرقة للروح تآكل للعمر.. الغربة كلما بقيت فيها شدتك نحوها بقوة حتى تصبح مدمنا عليها مسافرا فيها حتى النهاية.. تجربة الغربة قاسية، احتراق داخلي.. انفصام بين الجسد والروح التي تسكن وطنك ولا تهاجر معك.. قال لي ذات صباح بارد شاب فرنسي أراك يومياً في هذا المكان والبراح متى ترفه عن نفسك؟ أنا هنا من أجل هذا، بأصبعي أشرت له على عنوان أطروحتي هذا هدفي.. كما أنني ظللت طيلة مدة دراستي في البيزاك أجلس نفس المكان والزمان.. هذا أنا أناني الأماكن والزمان محافظ على مواعيدي.. في غربتي دائماً أسقط حالتي على أخي الذي لم تلده أمي د.باسل حسين العراقي الأصيل ليبي الهوى.. قضينا سنوات معاً بين لبدة والساحل والخمس الجميلة بأهلها وطبيعتها.. كان باسل مثال المغترب المكافح.. ترك أسرته في بغداد الرشيد.. كنت ألمح في عيونه الحزن والغربة والاحتراق.. لم أتذوق ذلك الطعم حينها.. عندما شقيت عباب السفر بات ريقي ملوثا بما أصاب باسل حينها.. باسل لازال مغتربا من ليبيا إلى الأردن.. العراق الذي بسقوطه سقطنا بالتدريج مع فارق الزمن.. بتنا مغتربين مهاجرين مهجرين.. مصطلحات كنت أطالعها على الميديا وبين دفات الكتب السياسية.. باتت تجربة قاسية شخصية.. زمن غادر يا باسل.. قال شكاب أخي وتوأم روحي.. يا محمد شكلك قلقت من البلاد.. لا والله لكن البلاد قلقت مني.. شكاب الذي تعلمت منه الكثير في حياتي.. لم ينل حظه من التعليم كثيراً لكنه عارف بالناس له فراسة لا تخيب.. يا صديقي لو في العمر بقية سأرجع والشيب بيينا علامة الجودة.. نحكي قصصا مضت فرحاً وحزناً.. سنلتهم المكرونة في السهرية مع رفاق العمر.. الغربة يا عزيزي سرقت كل شيء حتى تحولت إلى لص شرعي.. أصبح رجوعي للوطن خلسة عطلات متقطعة قصيرة.. أغتنم فيها ما استطعت من هواء مصراتة وناسها وبحرها وبرها.. ما يربكني يا شكاب هو كبر أمي وأبي.. أنت فقدتهم واحداً تلو الآخر.. رحمة الله على سيدي علي الرجل العصامي وخالتي خديجة المرأة الصبورة الهادئة.. يا صديقي مؤلم أن ترى والديك ينسلون مع السنوات وتتهاوى قواهم.. أمي كانت تجوب الحوش ضم وغسل وطهي وتواصل الاقارب والأهل.. أضحت اليوم هرمة على أريكة خشبية تتنقل بالرباعية الألومنيومية.. أبي أسد الصحراء العارف بأسرارها المسافر عبر رمالها.. بات اليوم بحركة محدودة وسمع ضعيف.. تسعفه ذاكرته لأيام خلت كان فيها قويا.. مؤلم ذلك الانهيار الأبوي.. صورة حزينة التقطها الزمن.. كل زيارة لهم بقدر فرحي قدر حزني وألمي لتركهم سنوات متتالية.. حتى أختي نجاة التي لم يضحك لها الزمن نال منها العمر والمرض.. أي قدر ذلك الذي كتب علينا يا شكاب؟! ..
كل يوم يمضي في غربتي أخاف أن يصلني خبر وفاة أحدهم.. الخوف ليس من الموت تلك الحقيقة المُرة.. الخوف من الفراق اللعين.. نحن نموت مائة مرة في اليوم لكننا لا نتحمل الفراق.. الفراق الذي خطف أحباب وأصدقاء كثر بين موت وبُعد..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أكاديمي ليبي،