
* كتب/ د. محمود أبوزنداح ASD841984@GMAIL.COM
من لا يعرف عارف حجاوي؟ فهو الإعلامي والمذيع المخضرم الذي جمع بين التمكّن اللغوي والخبرة الإعلامية الممتدة في قنوات كبرى مثل الجزيرة وBBC Arabic والعربية. صوته المألوف، وحضوره المميز في البرامج الثقافية مثل سيداتي سادتي، جعلاه واحدًا من أكثر الإعلاميين العرب تأثيرًا في الخطاب اللغوي والثقافي.
غير أن هذا التأثير لا يعفيه من النقد، خصوصًا عندما يتحوّل تجاهل الحقائق إلى تهميشٍ غير مبررٍ لتاريخ شعوبٍ بأكملها.
حين يسقط الإعلام في فخ الانتقائية
في إحدى حلقاته، تحدث حجاوي عن معمر القذافي (1942–2011)، ولم يكتفِ بعرض الوقائع، بل ركّز على “غرائبيات” القذافي، رغم أن أهل ليبيا لها سبق الاعتراض على قراراته المثيرة للجدل مثل تغيير أسماء الأشهر الميلادية وجعل التقويم يبدأ من وفاة الرسول ﷺ.
ذلك القرار الذي اتخذ في منتصف التسعينيات (1994–2001) أدخل المؤسسات الليبية في فوضى تأريخية وإدارية ما زال أثرها في الأرشيف حتى اليوم.
لكن ما لم يقله حجاوي هو أن ربط وطن بشخصية واحدة جناية فكرية كبرى، لأن ليبيا ليست القذافي، بل هي أمة تمتد جذورها لعشرة آلاف عام من الحضارة.
ليبيا… منبع التاريخ الذي لا يُذكر
من قورينا (شحات) ولبدة الكبرى وصبراتة إلى غدامس، تحتضن ليبيا حضارات الإغريق والرومان. فقد قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد: “من ليبيا يأتي الجديد دائمًا.”
ومنها خرج القائد شيشنق الأول (945 ق.م) ليؤسس الأسرة الثانية والعشرين في مصر القديمة، فيجعل من الليبيين ملوكًا على الدلتا.

بل إن المومياء الليبية في جبال العوينات –المكتشفة في القرن العشرين– تعود إلى ما قبل بناء الأهرامات المصرية بآلاف السنين، لتؤكد أن الصحراء الليبية هي رحم الحضارة الإنسانية.
الأدب الليبي… الغائب عن المشهد العربي
من المؤسف أن يتجاهل الإعلام العربي –ومنه حجاوي– رموزًا فكرية ليبية أسهمت في تشكيل العقل العربي الحديث.
فـ الصادق النيهوم (1937–1994) أعاد قراءة الفكر الإسلامي بلغة عقلانية حديثة، ود. علي فهمي خشيم (1936–2018) قدّم دراسات لغوية فريدة في أصل اللغة العربية، وخليفة التليسي (1930–2010) حفظ التراث العربي ونقله إلى العالمية.
أما في الأدب المعاصر، فقد رفعت الكاتبة عائشة الأصفر اسم ليبيا عاليًا عندما فازت بـ”جائزة القدس للمرأة العربية للإبداع الأدبي” – فرع الرواية العربية – عن روايتها «إيشي»، التي انطلقت من مدينة سبها لتتناول قضايا التهميش والنزوح والعنف الاجتماعي في المجتمع الليبي، لتقدّم رؤية إنسانية عميقة عن معاناة الجنوب الليبي.
وفي الجانب الآخر من الصحراء، يقف إبراهيم الكوني (مواليد 1948)، ابن الرمال والسراب، الذي لقّبه النقاد بـ«مثقف الصحراء». رواياته مثل «التبر» (Gold Dust) تُرجمت إلى أكثر من 35 لغة، وجعلته أحد أبرز الأدباء العرب في القرن الحادي والعشرين. الكوني لا يكتب عن الصحراء فقط، بل يجعلها رمزًا للوجود الإنساني وصراع الإنسان مع القدر والحرية.
الريادة النسائية الليبية
ولا يمكن تجاهل إسهام المرأة الليبية في المجال الإعلامي، فقد كانت عايدة سالم الكبتي أول مذيعة تلفزيونية ليبية في ستينيات القرن الماضي.
بدأت عملها بالإذاعة عام 1965 وهي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، قبل أن تظهر على الشاشة في زمن لم تكن فيه المرأة العربية قد دخلت بعدُ مجال الإعلام التلفزيوني. وقد وثّق كتاب بعنوان «أول مذيعة تلفزيون ليبية– مذكرات عايدة الكبتي» تجربتها ومسيرتها الريادية.
ليبيا… صوت المسابقات والثقافة
رغم الصعوبات، لم تتوقف ليبيا عن الاستثمار في الوعي والمعرفة. فقد شهدت السنوات الأخيرة عودة قوية للمسابقات الفكرية والثقافية:
مسابقة تعبير التي أطلقتها اليونيسف ليبيا في نوفمبر 2024 تحت عنوان «حقوق الأطفال».
مسابقة القندس الليبي، وهي أولى مراحل أولمبياد المعلوماتية الليبي 2024–2025، برعاية وزارة التربية والتعليم.
مسابقة المهرة لحفظ القرآن الكريم التي ترعاها وزارة الثقافة الليبية، وتستهدف فئات عمرية متعددة لتشجيع حفظ القرآن واللغة العربية.
حين تختزل ليبيا في خطأ لغوي
ولعل أكثر ما أثار الاستغراب في التفاصيل الصغيرة عندما قال عارف حجاوي إن كلمة «الكيمدينو» كلمة مصرية، متغافلًا عن أصلها الإيطالي (Comodino) الذي دخل اللهجة الليبية زمن الاستعمار (1911–1943)، وانتقل لاحقًا إلى مصر من خلال التواصل الليبي–المصري.
إن تجاهل هذا البعد التاريخي واللغوي يكشف ضيق زاوية الرؤية، إذ لا يمكن فهم العربية الحديثة دون المرور على ليبيا، التي كانت وما تزال جسرًا لغويًا وثقافيًا بين المشرق والمغرب.
ليبيا… التي لا تموت
ليبيا لم تكن صحراء قاحلة، بل رسمها التاريخ بمداد الذهب والماء والحضارة.
هي التي أنشأت أول جمهورية عربية عام 1918 في طرابلس الغرب، وأصدرت أول صحيفة عربية في شمال إفريقيا عام 1827، واحتضنت أول برلمان وطني عام 1951 مع إعلان الاستقلال بقيادة الملك إدريس السنوسي.
وهي التي أنجبت أدباء وفنانين ومفكرين ومبدعين حملوا رسالتها إلى العالم.
إن تجاهل ليبيا في الخطاب الإعلامي العربي، وخاصة من إعلامي بحجم عارف حجاوي، لا يغيّر من الحقيقة شيئًا.
فليبيا – بتاريخها ومبدعيها – حاضرة في وجدان الأمة، حتى لو غابت عن نشرات الأخبار.
ومن لا يعرف ليبيا، لن يعرف العروبة في أعمق معانيها.
ومن لا ينطق باسمها، فليعلم أنه أسقط من ذاكرته فجرًا من فجر التاريخ.



