العربي الجديد-
تتصاعد حدة الصراع على الثروات في ليبيا بين الأطراف المتنافسة على السلطة، لتتسع أزمة السيطرة على إدارة المصرف المركزي وتمتد إلى منابع إنتاج النفط، بعد أن قررت حكومة مجلس النواب غير المعترف بها دولياً، إعلان القوة القاهرة في الحقول النفطية ووقف الإنتاج والتصدير.
وجاء قرار حكومة مجلس النواب، التي تتخذ من بنغازي شرقيّ ليبيا مقراً لها، رداً على قرارات أصدرها المجلس الرئاسي في طرابلس لتغيير مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي ومحافظه، وإصراره على إنفاذها، على الرغم من رفضها من قبل مجلس النواب وإعلان بطلانها، في مؤشر واضح على اتجاه أطراف الصراع نحو استخدام النفط ومؤسسة المصرف المركزي كأوراق جديدة في المعارك والخصومات القائمة بينها.
إثر قرار حكومة مجلس النواب، قال مهندسون بحقول نفطية في جنوب شرق ليبيا الثلاثاء (27 أغسطس 2024م) إن الإنتاج توقف في حقلين بجنوب شرق البلاد، بينما خفّض حقل ثالث الإنتاج. وأعلنت شركتا الواحة والخليج النفطيتان البدء بخفض إنتاجهما تدريجياً، إلا أن بقية الشركات الأخرى لم يصدر عنها أي مواقف متجاوبة مع قرار إيقاف إنتاج النفط، كذلك لم يصدر عن المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، المناط بها إدارة العمليات النفطية واستخدامها لحق فرض القوة القاهرة لدواعيها، أي موقف بشأن قرار حكومة مجلس النواب.
وفي طرابلس طالب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، المعترف بها دولياً، وزارة النفط في حكومته بــ”ضرورة متابعة أوضاع الحقول النفطية وعدم السماح بإقفالها تحت حجج واهية، وضرورة محاسبة من يقوم بهذه الأفعال المشينة وإحالته على جهات الاختصاص”، في إشارة إلى قرار حكومة مجلس النواب.
وفي خضم هذه المواقف المتضادة، دعت البعثة الأممية في ليبيا جميع الأطراف المعنيين بأزمة المصرف المركزي إلى “اجتماع طارئ” للحوار من أجل التوافق على حل لأزمة المصرف، وطالبت بالعديد من الإجراءات، منها “الرفع الفوري للقوة القاهرة عن حقول النفط، والكف عن إقحام مصدر الدخل الرئيسي للبلاد في الصراعات السياسية”.
وإن لم تتجاوب الشركات النفطية مع قرار حكومة مجلس النواب، إلا أن الأكاديمي والباحث السابق في مركز بحوث العلوم الاقتصادية مرعي رحيل، يعتبر القرار بحد ذاته، يكشف عن دليل على عدم دراية حكومة مجلس النواب لخطورة تسييس قطاع النفط بشكل خاص وخطورته على الاقتصاد الليبي بشكل عام، موضحاً أن “قرار النفط لم يعد بيد الجهات الخدمية الخاصة بإدارة النفط كالمؤسسة ووزارات النفط، فمسؤولو إدارات الشركات النفطية، بل ومؤسسة النفط نفسها، موالين لأطراف الصراع وتصدر قراراتهم تبعاً لمصالح تبعيتهم لأي منهم”.
ويذكّر رحيل، خلال حديثه لـ”العربي الجديد”، بتقارير إعلامية تحدثت عن إجراءات من قبل السلطات الإسبانية بحق صدام حفتر، الذي قابلها بقفل حقل الشرارة النفطي قبل أسابيع، لكونه حقلاً تشارك فيه شركة ريبسول الإسبانية.
وكانت حكومة الوحدة الوطنية قد وصفت إغلاق حقل الشرارة بأنه “ابتزاز سياسي” مرتبط باعتقال صدام في أوروبا بتهم تتعلق بتهريب الأسلحة. ويقول رحيل إن “الحكومة في طرابلس احتجّت وقتها على إغلاق حقل الشرارة، لكن احتجاجها لم يعنِ شيئاً لأنها لا تسيطر على الحقل، لكن الأكثر استغراباً في الوسط أن المؤسسة الوطنية للنفط لم تعلن منذ يومها وحتى الآن عن موقفها من هذا الإغلاق، وباعتقادي أن السبب يتمثل بأن رئيس مؤسسة النفط شخصية موالية لحفتر ولذا تجاهل الحدث”. وأشار إلى أن كل ذلك مؤشرات على تنفّذ الأطراف السياسية في تفاصيل قرار النفط.
ضغط متبادل قد يفضي إلى توافق أو انهيار الاقتصاد
ويرى رحيل أن المؤسسات الاقتصادية، خصوصاً المصرف المركزي ومؤسسة النفط، “أصبحت في معركة المصرف المركزي الأخيرة في قبضة أطراف الصراع، فمثلما سيطرت الحكومة وحليفها المجلس الرئاسي على مقر الأموال، أراد حفتر أن يقول إن النفط مصدر الأموال بيده”، مضيفاً: “قد تكون نتيجة هذه المعركة إيجابية وتدفع كليهما إلى الحوار من أجل التوافق، لكن سيكون لها وجه آخر قاتم في سلبيته إذا استمر الصراع وتشبث كل طرف بورقته، ما سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واسع يأتي على ما تبقى من آمال إنقاذه، وحتى لو تم الاتفاق على صفقة بالتقاسم، فهذا يعني أن تعزيز طبقة سياسية دائمة لحكم البلاد بسيطرتهما على المال ومصدره”.
ويتابع: “حتى لو انحصر الأمل في توافق سلطة طرابلس وسلطة معسكر الرجمة (في بنغازي) على عقد صفقة، فسيبقى النفط وأمواله رهين مصالحهم التي ستختلف بكل تأكيد لتعود أزمة النفط وإغلاقاته”، مشيراً إلى أن استمرار تعامل معسكر حفتر مع النفط باعتباره ورقة ضغط ومساومة “يعكس عدم درايته بأهمية النفط إلا في سياق طموحه السياسي، وفقدان الشريك الأجنبي ثقته في مؤسسة النفط، وهو ما سيظهر قريباً، لن يدفع به إلى مغادرة شركاته للبلاد، بل لاستغلال حالة الانقسام”.
في المقابل، فإن “الحكومة في طرابلس دشنت منذ فترة أسلوباً ضاراً في استغلال النفط، بأن منحت حصصاً ونسباً إضافية للشركات الأجنبية لتشجيعها للاستثمار والتنقيب عن الغاز والنفط بهدف حشد مواقف دولها لتعزيز سلطته، مثل ما حدث في حقل الحمادة للغاز الذي منحت فيه الحكومة حصصاً كبيرة فيه لشركات أجنبية، وهذا السلوك يستخدمه حفتر أيضاً، فالمخاوف الأوروبية الأميركية من إمكانية تمكين حفتر موسكو من الاستفادة من النفط الليبي لتخفيف خناق الحصار النفطي المضروب عليها، دليل على ذلك”، وفق رحيل
وكثيراً ما أدت قرارات إغلاق الحقول النفطية المتتالية إلى خسائر مالية كبيرة، آخرها ما صرّح به نقيب قطاع النفط سالم الرميح، لوسائل إعلام ليبية، تفيد بأن الخسائر الناجمة عن استمرار إغلاق حقل الشرارة تجاوزت 3.5 مليارات دينار ليبي (735.2 مليون دولار).
وتبلغ الطاقة الإنتاجية للحقل 300 ألف برميل يومياً. و”القوة القاهرة” إجراء يُعفي طرفي التعاقد من أي التزامات قانونية أو مالية تترتب عن عدم الوفاء بالتعاقدات النفطية الدولية بسبب حدوث ظروف طارئة خارجة عن إرادة الطرف المصدر.
وتدير المؤسسة الوطنية للنفط تسع شركات مملوكة للدولة الليبية، وثماني شركات بالمشاركة، بالإضافة إلى ثماني شركات بالمقاسمة في استكشاف النفط وإنتاجه منها توتال الفرنسية، وإيني الإيطالية، وريبسول الإسبانية، ومعظم حقول هذه الشركات ومواقع أعمالها تقع في جنوب وشرق البلاد، كذلك تقع الموانئ النفطية الأهم في وسط شمال البلاد، وجميع هذه الأنحاء ضمن الأراضي التي يسيطر عليها حفتر.
ويلفت رحيل إلى أن استخدام معسكر حفتر لورقة النفط هذه المرة مختلف، فالأمر بحسب رأيه متعلق بمعركة السيطرة على المصرف المركزي “بخلاف المرات السابقة التي كان سبق الإغلاق فيها مطالب يمكن حلها بأي شكل، ووصول خريطة الصراع إلى شكلها الحالي بوجود من يسيطر على مؤسسة المال المصرفية، ومن يسيطر على موارد المال النفطية، يرسم صورة خطرة على مستقبل وحدة البلاد، في ظل ارتفاع أصوات من ينادون بضرورة تقسيم ثروة أموال النفط بين أقاليم ليبيا الثلاثة، في حل يرضي جميع الأطراف”.
وحول الحلول الممكنة لتجنيب قطاع النفط، الذي مثل المورد الوحيد لخزانة البلاد، أخطار الاستغلال السياسي من قبل أطراف الصراع، يرى رحيل أن “الحل ضمن السؤال، فأنجح الحلول إقصاء الطبقة السياسية الحالية بجميع أقطابها من خلال إطلاق عملية سياسية واسعة تمنع المتحكمين الحاليين من اختزال السلطة فيهم ولعبهم بورقة النفط في باحات صراعهم”.
ذات صلة:
الوطنية للنفط تجتمع بحراك فزان في سبها على خلفية إغلاق حقل الشرارة