العربي الجديد-
يسيطر القلق على أوساط إدارة مصرف ليبيا المركزي، على خلفية وصول تداعيات تأثير التجاذبات السياسية الحاصلة في البلاد إليه، خاصة الخلافات بين حكومة الوحدة الوطنية، المعترف بها دولياً، ومجلس النواب المنتهية ولايته منذ سنوات. وكشفت مصادر ليبية متطابقة، عن إبداء موظفين رفيعي المستوى قلقهم إزاء التهديدات التي تلقوها من أطراف مجهولة، مؤكدة أن اثنين من موظفي البنك على الأقل توجها إلى النائب العام لطلب التحقيق، مصحوبين بشواهد وأدلة التهديدات، خاصة تسجيلات صوتية من هاتفيهما.
وفيما لا تتصل تلك التهديدات بوظائفهم بل بشخوصهم، إلا أنهم يعتقدون أنها على صلة بما يدور في كواليس الأجهزة السياسية من مساع لوقف محافظ البنك المركزي عن عمله، مستندين في ذلك إلى تحفظهم على قانونية قرار الإيقاف الذي كان يتم التحضير له. وخلال نهاية الأسبوع الماضي ومطلع الجاري كانت الأوساط السياسية في طرابلس تتحضر لإصدار قرار لتعيين محافظ جديد للبنك المركزي بديلاً عن المحافظ الحالي الصديق الكبير، بموجب مرسوم كان من المرتقب أن يصدر عن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي من منطلق صلاحياته الرئاسية، إلا أن العديد من الاتصالات التي جرت بشكل كثيف محلياً ودولياً حالت دون صدور المرسوم، بحسب مصادر ليبية متطابقة تحدثت لـ”العربي الجديد”.
وأوضحت المصادر أن قرار المجلس الرئاسي استند إلى تقارير لمكتب استرداد أموال الدولة الليبية التابعة للمجلس، حول تصرف الصديق الكبير في جزء من أموال وديعة ليبية لدى إحدى الدول الصديقة لليبيا دون غطاء سند قانوني يخوله بالتصرف، كما أن تصرفه يهدد قوة ضمانات استرداد ما تبقى من مبالغ الوديعة لدى تلك الدولة.
ورجح موظف رفيع في المؤسسة الليبية للاستثمار، أن تكون خطوة المجلس الرئاسي جاءت بدفع من حكومة الوحدة الوطنية التي تدور خلافات كبيرة بين رئيسها عبد الحميد الدبيبة ومحافظ البنك المركزي منذ فترة، كاشفا عن تحرك الحكومة لدى النائب العام بشأن تصرف محافظ البنك المركزي في هذه الوديعة، حيث طالبت الحكومة بالتحقيق في الحادثة، إلا أن طول مسار التحقيق القضائي حدا بمسؤولي الحكومة إلى تحويل الأمر إلى المجلس الرئاسي المتحالف مع الحكومة.
وضمن إجراءات عاجلة تخول المجلس الرئاسي بالتحرك في القضية وإصدار مرسومه بتعيين بديل عن الكبير، تم إرجاع تبعية مكتب استرداد أموال الدولة الليبية من الحكومة إلى المجلس الرئاسي. إلا أن ذات المصادر أكدت تراجع المنفي عن قراره بعد اعتراض من قبل عضوي المجلس الآخرين، موسى الكوني وعبد الله اللافي، حيث تقتضي قرارات المجلس أن تصدر باجتماع أعضائه، من جانب، ومن جانب آخر لعدم امتلاك المجلس الرئاسي صلاحيات إصدار مراسيم تتعلق بشاغلي المناصب السيادية، ومن بينها البنك المركزي.
وفي جميع الأحوال دخل البنك المركزي على خط الصراعات السياسية التي يستميت فيها كل طرف للمحافظة على مصالحه ومكاسبه وإقصاء الآخر، وفقا لرأي سالم الشوماك الناشط والمتابع للشأن الاقتصادي الليبي، الذي يشير إلى أن محافظ البنك المركزي بات الورقة الرابحة في خضم الصراع في مرحلته الحالية، فالجميع يسعى إما لكسبه، أو الإطاحة به.
ويستشهد الشوماك، خلال حديثه لـ”العربي الجديد”، بأن الكبير كان مصدر قوة الدبيبة خلال السنوات الماضية، عندما كان يسيل له أموال الحكومة وفقا لقرارات الترتيبات المالية، والآن أصبح مصدر قوة الحكومة الموازية في الشرق بعد أن تصالح مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، على الرغم من أن الأخير سبق وأن أصدر قراراً بإقالته من منصبه منذ سنوات وكان يصرح بأن الكبير مغتصب لمنصبه.
وظهرت بوادر الخلاف بين البنك المركزي والحكومة في طرابلس منذ نهاية العام الماضي، وتصاعدت بشكل واضح عندما رفض الكبير تنفيذ خطة الترتيبات المالية للعام الحالي لصالح حكومة الوحدة الوطنية إلا بموافقة مجلس النواب، على الرغم من أنه كان ينفذها لصالح الحكومة خلال السنوات الماضية، وقبلها لصالح حكومة الوفاق الوطني السابقة.
ولم تنجح الوساطات والاتصالات بين الكبير والدبيبة، وآخرها وساطة أجراها مفتي البلاد العام الشيخ الصادق الغرياني، الذي يرتبط بعلاقات متينة بالرجلين، ليتفجر الخلاف معلنا بينهما مع اقتراح الكبير، في مطلع مارس الماضي، إضافة رسوم ضريبية على بيع النقد الأجنبي بنسبة 25%، ووافق عليها عقيلة صالح بشكل فوري ليبدأ البنك المركزي في تنفيذها رغم الاعتراض الذي ابداه الدبيبة بسبب ما ترتب على نسبة الضريبة المرفوعة من غلاء حاد في الأسواق وشح في السيولة النقدية، زاد من حجم الخناق المضروب على الحكومة.
وفي مطلع يوليو الماضي التقى الكبير وعقيلة صالح في مظهر واضح لتحسن العلاقة بينهما، قبل أيام معدودة من إعلان مجلس النواب الموافقة على منح ميزانية تقدر بــ 180 مليار دينار (حوالي 37.5 مليار دولار) لحكومة مجلس النواب، وفي الوقت الذي لم يبدِ فيه الدبيبة أي اعتراض على منح الميزانية لحكومة مجلس النواب، عبر العديد من المراقبين عن اعتقادهم بأن الميزانية جرت الموافقة عليها وفق اتفاق يتم خلاله تنفيذ الميزانية بالتقاسم بين الحكومتين، لكن الشوماك لا يوافق على هذا التحليل، موضحاً أن الضبابية كانت تغلف شكل الاتفاق لتنفيذ الميزانية بالتقاسم، لكن التصعيد الأخير ضد محافظ البنك المركزي يؤشر إلى أن حصة حكومة الدبيبة لم تكن أكثر من حصة تنفيذ باب المرتبات ودعم المحروقات، فيما ذهب الجزء الأكبر للحكومة الأخرى.
لكن في المقابل يلفت الأكاديمي والباحث في الشأن الليبي فاضل الطويل، إلى أن متابعة المتغيرات الأخيرة في مواقف وسياسات محافظ البنك المركزي، تظهر وجود ظل أميركي يقف وراءها، وأن واشنطن هي من كانت ترى كل هذه التغيرات في سياسات الكبير، بسبب تصاعد تنافسها مع الجانب الروسي في ليبيا.
ويذكّر الطويل بأن مقترح الكبير بزيادة الرسوم الضريبية على بيع النقد الأجنبي صدر بعد يوم واحد من اجتماع معلن بين الكبير والمبعوث الأميركي ريتشارد نورلاند الذي نشر تدوينة على حسابه يقول فيها إنه ناقش مع الكبير مسألة المحافظة على قوة الدينار الليبي، لكن في الواقع كانت تقارير صحافية غربية تتحدث وقتها عن اكتشاف ورقة نقدية ليبية مزورة من فئة الخمسين دينارا متداولة في الأسواق الليبية، اشترت جهة مجهولة بها كميات من الدولار. ويشير الطويل إلى أن البنك المركزي أعلن بالفعل عن وجود ورقة الخمسين المزورة، بالتزامن مع إجراءات قاسية كان يعمل عليها البنك المركزي في اتجاه دفع المواطنين نحو التعامل بالبطاقات البنكية الإلكترونية وتقليل استخدام الأوراق النقدية الورقية.
وبحسب رأي الطويل، كل بيانات البنك المركزي خلال شهري إبريل ومايو الماضيين كانت تتحدث عما سمي بالإنفاق الموازي مجهول المصدر، وكان واضحاً أن المقصود به الأموال التي تنفقها حكومة مجلس النواب لصالح مليشيات حفتر، مضيفا: “كانت واشنطن تدفع الكبير إلى فرض معالجات في اتجاه معسكر حفتر لاحتواء أزمته المالية وقطع الطريق أمام الروس الذين يتعامل معهم حفتر لطباعة العملة النقدية الليبية”، مؤكدا أن التقارب السريع الذي حدث بين الكبير ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح كان بدفع من واشنطن.
ويرى الطويل أن رفع قيمة الضريبة على بيع النقد الأجنبي سيمكن البنك المركزي من الحصول على أموال لتغطية ديون حفتر، دون المساس بأموال النفط التي يبدو أنها تخضع للرقابة الدولية أيضا في إطار منع واشنطن وحلفائها روسيا من الاستفادة من النفط الليبي لفك خناق الحصار النفطي المفروض دولياً عليها. ويؤكد أن لقاء الكبير بعقيلة صالح مطلع يوليو الماضي، وإعلان صالح صرف ميزانية بحجم 180 مليار دينار بعد لقائه بالكبير بأيام معدودة “جاء في سياق مساعي الأميركيين لمعالجة الخلل الذي يعانيه حفتر ضمن سياساتها لقطع الطريق أمام تمكين روسيا من وجودها في ليبيا من بوابة حفتر”.
لكن وبحسب رأي الطويل، فإن الأوضاع لم تسر في الاتجاه المرسوم لها، فتحرك مليشيات حفتر في مناطق الغاز بالقرب من غدامس غربي ليبيا، وقفل حقل الشرارة (شرق)، كل ذلك يشير الى عمق النفوذ الروسي، معتبراً أن جملة من المتغيرات الجديدة تؤكد وجود تحول في موازين التحالفات الدولية والإقليمية في الملف الليبي، وآخرها استضافة الحكومة المصرية رئيس حكومة مجلس النواب في زيارة رسمية معلنة. ويعتبر أن انكشاف تصرف الكبير في الوديعة التي تتحدث تقارير عن أن قيمتها تقارب الثلاثة مليارات دولار، أمر لا يمكن تجاوزه، ويجب التحقيق في المستفيد من هذا التصرف، وهو أمر يعزز ثقة واشنطن في الكبير.
ولا يتوقع الطويل أن تجري إقالة الحكومتين في الوقت الحالي، متسائلاً “كيف يمكن أن تقال حكومة بالأمس فقط صرفت لها ميزانية ضخمة، وطلب منها البدء في تنفيذها، فهذه الحكومة المتحالفة مع حفتر الذي يدير نجله بلقاسم جهازاً تنموياً يحتاج مليارات، لن تسلم السلطة”.
وأعرب الطويل عن اعتقاده بأن الإجراءات المقبلة ستستهدف دفع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى التوافق في ملف المناصب السيادية، بتسمية شخصيات جديدة تدير بعض الجهات السيادية كالبنك المركزي ومؤسسة النفط. ورأى أن الصعوبات جمة أمام أي مساع، سواء أميركية أو غيرها، لمعالجة الخلافات القائمة بين الأطراف الليبية للحفاظ على مصالحها من خلال المؤسسات الحيوية، وأهمها البنك المركزي.