الرئيسيةفي الذاكرة

شيخ الانتفاضة.. في ذكرى الرحيل..

الشيخ أحمد ياسين..

شيخ الانتفاضة.. في ذكرى الرحيل..

 

جلس خلف القضبان هادئا مطمئنا، وأخذ يتصفح أيامه وتجاربه، لا ليندب حظه العاثر، ولا ليبكي على الأطلال، وإنما ليرسم للمستقبل، مستفيدا من كل ما مر به، ويخطط بدقة لهذا الوطن الذي عشقه وآمن به..

 

إنها ليست المرة الأولى التي يدخل فيها السجن ظلما، ولا يزعجه كثيرا إن لم تكن الأخيرة، مادام مقتنعا بما نذر نفسه له.

 

يدرك أنه لم يعد بإمكانه أن يقود سيارة مسلحة، أو يرمي قنبلة، ولم يعد بإمكانه أن يناور بجسده المنهك، فشلل جميع أطرافه الذي نجم عن حادث في شبابه، جعل سلاحه القلم، وجعل في مفردات اللغة التي أتقنها بحكم تخصصه الدراسي ماهو أحد من السيف، وبقنابل الكلام فعل ما لم تفعله أحدث الأسلحة الصهيونية.

 

كان يتأمل بعيني عقله ظروف اعتقاله الأولى، كان ذلك منذ زمن..

في سنة 1965 اعتقلته المخابرات المصرية ضمن الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية في تلك الفترة، إذ بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة، وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قابة الشهر، ثم أفرج عنه. وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارا مهمة لخصها بقوله إنها عمقت في نفسه كراهية الظلم، وأكدت له أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل، وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية..

 

***

 

نعم الحرية. هذا المعنى يستحق الكثير، كما تستحق غزة التي انطلق من مساجدها حتى أصبح في ظل الاحتلال أشهر خطيب عرفه القطاع لقوة حجته وجسارته في الحق، غزة التي عمل فيها رئيسا للمجمع الإسلامي.

غزة التي شارك فيها وهو في العشرين من عمره في المظاهرات التي اندلعت احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر، وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة، مؤكدا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم.

***

وفيما الشيخ مسترسل في ذكرياته فتح عليه باب الزنزانة، إنهم الأوغاد يدعونه إلى قاعة التحقيق:

  • أحمد ياسين أنت متهم..
  • متهم بالتحريض على اختطاب وقتل جنود صهاينة..
  • متهم بتأسيس حركة حماس وجهازيها الأمني والعسكري..
  • أنت مجرم..
  • أنت إرهابي..

كان يقول بينه وبين نفسه، ما أروع ذلك، ما أروع هذه التهم، وكان الرد “حسبنا الله ونعم الوكيل”

وكان الضرب والتعذيب هو الرد على تهكمه

***

 

وها هو يلقى في زنزانته ثانية بعد أن أفقده التعذيب الإبصار بالعين اليمنى، والكثير من نور العين اليسرى، بالإضافة إلى التهاب مزمن بالأذن، وحساسية في الرئتين وأمراض والتهابات باطنية ومعوية.. وهو يقول “الحمد لله” ويقول لمعذبيه “هل من مزيد” فهذا الجسد لم يعد يعنيه ما دام نذر روحه لله والوطن.

 

وفي خضم الآلام الجسدية كانت روحه صافية الصفاء كله، وهو يعود بذاكرته ثانية، وينظر بعينه الواحدة الكليلة إلى ظروف اعتقاله الثاني في العام 1983 في سجون الاحتلال، ويذكر بخفر التهم التي وجهت له:
حيازة أسلحة وتشكيل تنظيم عسكري والتحريض على إزالة الدولة العبرية من الوجود..

وفي قاعة المحكمة:

  • حكمت المحكمة على المدعو “أحمد إسماعيل ياسين” بالسجن لمدة ثلاثة عشر عاما.

لكن السجن لم يدم أكثر من أحد عشر شهرا، إذ قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعملية تبادل للأسرى مع سلطات الاحتلال.

 

***

كان الشيخ يتذكر كيف قام بعد ذلك بتأسيس حركة حماس مع مجموعة من النشطاء الإسلاميين عام 1987م

وكيف داهمت قوات الاحتلال منزله في أغسطس 1988 وفتشته وهددته بدفعه في مقعده المتحرك عبر الحدود ونفيه إلى لبنان.

إنهم يألمون، الشيخ ياسين يدرك ذلك، ويسره ذلك..

 

***

وقطع عليه سلسلة ذكرياته مرة أخرى صوت السجان:

  • هيا، إلى قاعة المحكمة.

 

لم تكن الجلسة تخلو من الطرافة، ففي السادس عشر من يناير 1991 صدر الحكم على المعتقل أحمد ياسين بالسجن مدى الحياة، مضافا إليها خمسة عشر عاما!

والسجن في أعراف الأنجاس له أعرافه الأكثر نجاسة، الأمر الذي أدى لتدهور حالة الشيخ ونقله إلى المستشفى عديد المرات..

وعلى فراش المرض كان يتذكر ليلة اعتقاله. ليلة الثامن عشر من مايو 1989، عندما اعتقل المائات من أبناء حركة حماس في محاولة لوقف المقاومة المسلحة التي أخذت آنذاك طابع الهجمات بالسلاح الأبيض على جنود الاحتلال ومستوطنين واغتيال العملاء.

وهؤلاء أنفسهم أو رفاقهم هم الذين سعوا لإطلاق سراحه، ففي الثالث عشر من ديسمبر 1992 قامت مجموعة فدائية من مقاتلي كتائب عز الدين القسام بخطف جندي صهيوني، وعرضت المجموعة الإفراج عن الجندي مقابل الإفراج عن الشيخ ومجموعة من المعتقلين بينهم مرضى ومسنون ومعتقلون عرب اختطفتهم قوات صهيونية من لبنان.

إلا أن حكومة الاحتلال رفضت العرض وداهمت مكان احتجاز الجندي، مما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة المهاجمة، قل استشهاد أبطال المجموعة الفدائية بمنزل قرب القدس.

 

لكن لعبة الأقدار محيرة للأنجاس ورحمة لمن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

إنها اللعبة التي دفعت بالعميلين الصهيونيين إلى محاولة اغتيال “خالد مشعل” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الأردن، ودفع القبض عليهما بعد فشل المحاولة إلى إطلاق سراح الشيخ بالمقايضة بهما..

وها هو الجسد الضعيف ذو الروح القوية خارج القضبان مرة أخرى، فجر الأربعاء الأول من أكتوبر 1997.

 

***

لقد تاب عن خزعبلاته..

هكذا ظن ضعاف النفوس، أو لعلهم تمنوا..

لكن الجماهير كأنما أنشطت من عقال وهي ترى مصدر إلهامها والأب الروحي لها.

فما إن رأى ضوء الشمس حتى أخذ يعد للكرة القادمة، وقال عن السلام المزعوم: “إن ما يسمى بالسلام ليس سلاما بالمرة، ولا يمكن أن يكون بديلا عن الجهاد والمقاومة”.

وقد قابل أتباع الشيخ محاولات إعاقة نشاطاته بمقاومة عنيفة، ففي ديسمبر 2001 قتل رجل في اشتباكات مع الشرطة الفلسطينية بعد وضع الشيخ تحت الإقامة الجبرية، واندلع إطلاق النار ثانية في يونيو 2002 عندما أحاطت الشرطة الفلسطينية منزله، بعد سيل من عمليات التفجير الدامية ضد الصهاينة.

 

***

 

وإيمانا من الشيخ أن الفرقة تضر بمصالح الفلسطينيين فقد حافظ على علاقات طيبة مع السلطة الوطنية الفلسطينية  والدول العربية الأخرى، لذلك فقد لزم الصمت أثناء انعقاد قمة العقبة عام 2003 في الأردن، والتي حضرها زعماء صهاينة وأمريكيون، علاوة على رئيس الوزراء آنذاك “محمود عباس”.

لكن ذلك لم يمنعه من مهاجمة نتائج تلك القمة..

 

***

 

احتار معه أعداؤه، وضاقت حيلتهم مع هذا المقعد الذي يقيم الدنيا بكلمة، واتضحت حيرتهم حين تحرك الجيش الصهيوني في محاولة لاغتياله في سبتمبر 2003، وعرى ضعفهم أن فشلوا في ذلك.. فيال خيبتهم وذلهم..

لقد كان مستعدا للقاء الموت، ولظروف الاعتقال، ولكل الظروف..

هذا ما أدركه الصهاينة مؤخرا، كما أدركوا أنه ملهم كبير للأجيال الفلسطينية حين خرج الآلاف من المؤيدين له مهللين لرؤيته بينما كان يهدد بالانتقام بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال الفاشلة، والتي أصيب فيها بجروح في منزل زميله في حركة حماس في غزة.

 

***

 

نعم. لم يخش الموت، وقال مقربون منه إنه كان ينتظره في كل لحظة..

في يوم 21 مارس 2004 جمع أولاده وأخبرهم أنه يتمنى الشهادة، وفي اليوم التالي حين سمعت زوجته صوت الغارة وانطلاق الصاروخ قالت إن الشيخ “قد تحطم”..

 

لقد استشهد في عملية صهيونية جبانة تحت إشراف السفاح “شارون” بعد صلاة الفجر..

 

بعد صلاة الفجر عزمت

ترحل عنا بعد الفجر

في عتبات المسجد أضحى

دمك الطاهر حرا يجري..

ودعت الدنيا بسجود

لله وتسبيحة ثغر

وطويت الدنيا بدماء

وكذا يطوى عمر الحر

تبكي غزة تبكي القدس

يبكي مليار في صبر

كيف رحلت كيف فمن ذا

يقطف بعدك يوم النصر؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى