الرئيسيةالراي

شواربكم لها تاريخ سياسي واجتماعي، فلا تستهينوا بها!

* كتب/ محمد جمعة البلعزي،

أردت بمقالتي هذه إبعادكم ولو قليلاً، عن مشاكل الدنيا وهمومها والتنفيس عن الروح، لأسير بكم نحو أمر قد يخلو من الأهمية، لكنه لا يستهان به، وسأوضح ما أعنيه.

مذ بلوغي سن الرشد، أطلقت العنان لشعر شاربي، أو شنبي، ليرافقني مسار حياتي، فربّيته ورعيته إلى أن أصبح كثاً، مَنحني أبّهة بين أقراني فكان منهم المعجب والحقود والحاسد واللامبالي، وأتباهى به أمام إناث الحي لجذب حور العين منهن، بل إن والدي كان يزجرني مرات كي أحلقه لأنني تفوقت عليه شنباً.

ربما كان الشارب عاملا اساسياً للانخراط في معترك الحياة الاجتماعية والسياسة، لأن “ظل الشارب” كان أول علامة خارجية تدل على أننا نزعنا عنا ثوب الطفولة ودخلنا مرحلة النضج والمسئولية، والتحول إلى المواطنة الحقة للعب ورقة في دورة الحياة. كذلك ارتبط الشارب الكث بالحب والغرام، ففي القرن التاسع عشر أطلق البريطانيون العنان لشواربهم من باب الجمال الذكوري، لترمز إلى أنهم عزّاباً أو يتمتعون بمكانة اجتماعية أو أنهم مقبلون على الزواج. ثم إن بعض النظريات التسويقية تدّعي أن الرجال ذوي اللحى أو الشوارب المنسقة بتأنٍ، يمنحون الثقة للزبائن ويساعدون على زيادة بيع المنتجات، فاستخدموهم في الإعلانات.

قديماً، ارتبط الشارب الكث بالحرب، فقد اعتبر الإغريق والرومان اللحية الكثيفة رمزاً للرجولة، لكن الأعداء كانوا يستولون على لحى قتلى أولئك في المعركة للبرهنة على خسارتهم، فشرعوا في حلقها وأبقوا على الشارب.

في مشرقنا العربي، ارتبط الشارب الكث والطويل بثقافة العثمانيين الذين كانوا يرون فيه رمزاً للرجولة والشجاعة والإقدام، وهو ما تميز به باشاواتهم وباياتهم وقباطينهم وجنود انكشاريتهم، فنقله عنهم الشاميون وتبعهم باقي العربان، ليس لإظهار الشجاعة أمام الغزاة والمحتلين، فقد كانوا أنفسهم محكومون من بني عثمان، وإنما للسيطرة على نسائهم الأربعة وغلمانهم وعبيدهم.. ونجوعهم وبعائرهم وأغنامهم، وانطلق لسان دعايتهم ليصف شواربهم بأنها شوارب سبعٍ هصور وتقف عليها الطيور، ويداعبونها بأصابعهم للترهيب أو للفت انتباه الحرمات وما ملكت أيمانهم. على العكس من ذلك، هناك من يرى أن خلو قادة البلدان من شارب كثّ قاد إلى أسوأ النزاعات العسكرية، ففي القرن العشرين ظهر قادة سببوا حروباً وتمردات وانتهاكات للإنسان وحقوقه، أمثال الإسباني فرانكو والبرتغالي سالازار والإيطالي موسوليني واليوغسلافي تيتو والكمبودي بول بوت والليبي القذافي، أو لديهم شوارب تُرى بالكاد مثل هتلر، وكانوا قادرين على إلهام أي شيء سوى الثقة، في حين اختلف العراقي صدام والروسي ستالين، بسيرهما على خطى العثمانيين، لكنهم جميعاُ تركوا الدنيا خرابا.

في 1965 ظهرت في الولايات المتحدة جماعة أطلقت على نفسها “المعهد الأمريكي للشوارب”، تعمل حتى الآن وتجري استطلاعات واستبيانات حول مدى تقبّل المجتمع الأمريكي للشارب، ففي 2013 تبين أن 73٪ من الأمريكيين ربط حامل الشارب بالعربدة وإدمان الكحول، وأن 30٪ فقط رأوا أن أي مدير يلزمه حمل شارب لفرض هيبته على موظفيه ومستخدميه.

وبعد غياب طويل للشارب باعتباره “موضة قديمة”، عاد للظهور بقوة ليصبح رمزاً للشباب العصراني، وهنا لا أخفى سراً أن عودته أتت عقب موجة أحداث العالم وراء النشاط الجهادي، حيث أبدى الشباب الغربي المعادي للرأسمالية والدين، إعجابه الشديد بالمسلم المتمرد، وهو ما أخفته وسائل الإعلام الغربية وحاولت تعتيمه، لكنه أمر منتشر بين طبقة المراهقين، الذين تركوا العنان للحاهم وشواربهم وتفننوا في ترتيبها، بل إن عمل العديد من الحلاقين اقتصر على تصميم اللحى والشوارب، فقد صرح أحدهم “نحن نصمم ونرتب الشارب، أو اللحية، على ذوقنا، أما حاملها فيخرجها للفسحة إلى الشارع”.

الصحفية الاسبانية والكاتبة والمدافعة القوية عن شعر الوجه الذكوري، بلانكا لاكاسا، قالت: “نقطة التحول في عودة الشارب تكمن في كون حامله رجلاً رائعاً يرتدي ملابس أنيقة.. وذو شارب”، وتكهنت أن رجل الغد لن يكون لطيفاً ورائعاً إن لم يحمل شارباً.

ألبرتو ميرا، الباحث السينمائي الاسباني والأستاذ بجامعة أكسفورد بروكس، ليس من أشد المعجبين بالشارب لكنه يلقي الضوء على حقيقة مثيرة للاهتمام حول دلالات الشارب الاجتماعية والسياسية اعتماداً على المكان الذي يظهر فيه، قائلاً: “من المثير للانتباه أنه في السينما الإسبانية فقط ظهور شارب كث يدل ضمنياً على الفاشية، وفي أماكن أخرى كسينما هوليوود، يدل على الاحترام والهيبة ودليل على التحرر من قيود المجتمع”.

أما أنا فأقول عن نفسي إنني حافظت سعيداً حتى اللحظة على شاربي ورتبته وأعيد ترتيبه كل صباح، فقد رافقني عقوداً ولن أتخلى عنه أبداً حتى لا أخون سنوات العمر التي قضيناها معاً.. فقد شِبتُ مع شاربي وشاب شاربي معي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى