الأناضول-
ما إن تحدث رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة عن اتخاذه قرارا برفع الدعم الحكومي عن المحروقات (الوقود)، حتى ثار جدل وغضب شعبي واسع؛ مما دفعه وفق مراقبين إلى التراجع عن هذا التصريح بعد أيام قليلة.
فخلال اجتماع للجنة المحروقات الحكومية في 9 يناير الجاري، قال الدبيبة إن “قرار الحكومة برفع الدعم عن المحروقات اتُخذ ولا رجعة فيه”.
وأضاف أن المؤسسات الدولية ومصرف ليبيا المركزي والأجهزة الرقابية حذرت من استمرار الوضع الراهن، مشيرا إلى أن قيمة الدعم بلغت 50% من دخل البلاد، من دون ذكر تفاصيل أكثر.
غير أنه بعد غضب شعبي وانتقادات سياسية، قال الدبيبة في بيان إن “إقرار أي إجراءات مشروط بقبول الناس، وأن يكون مردودها المالي مباشرًا في جيب المواطنين”.
وأضاف: “لذلك اطمئنوا، فالنقاشات المجتمعية ومع ذوي الاختصاص بشأن مسألة دعم الوقود وبدائله مستمرة، لنصل إلى صيغة تضمن حق المواطن من الدعم، بعيدا عن مصالح المهربين (للوقود) وحلفائهم”.
ولا توجد أرقام حقيقية، بحسب مراقبين، يمكن من خلالها معرفة حجم الدعم الحقيقي للمحروقات. وتستورد ليبيا نحو 75 بالمائة من المحروقات، وفقا لوزير النفط بحكومة الدبيبة محمد عون.
وفي عام 2022، استوردت البلاد وقودا بقيمة 8.83 مليار دولار تم استبدالها بما يوازيها من النفط الخام، بحسب تقرير لديوان المحاسبة في أكتوبر 2023.
وعَدّدَ أكاديمي في مجال الاقتصاد وخبير سياسي، في حديثين للأناضول، التحديات المحتملة أمام تطبيق مثل هذا القرار وهي: حالة الانقسام المتجسدة في وجود حكومتين، وعدم السيطرة على الحدود، وغياب وسائل النقل العام الجماعي، والاستجابة الشعبية، ومدى القدرة على ضبط الأسعار وكذلك تنفيذ آليات استبدال الدعم.
وبينما اعتبر الأكاديمي أن ليبيا في أشد الحاجة لرفع الدعم؛ لأن تهريب الوقود إلى دول جوار أصبح مشكلة، رأى الخبير السياسي أن البلاد تحتاج إلى معالجات اقتصادية، بينها معالجة ملف الوقود وليس رفع الدعم عنه، عبر آليات اقتصادية تضمن الحد من التهريب ووصول الدعم إلى مستحقيه.
انعدام السيطرة
وقال أستاذ الاقتصاد في جامعة محمد بن علي السنوسي بمدينة البيضاء (شرق) أمجد القندولي للأناضول إن “عدم وجود حكومة موحدة وانعدام سيطرة الحكومتين على كامل التراب الليبي، سيكون أحد أبرز التحديات التي قد تواجه قرار رفع الدعم عن المحروقات”.
ومنذ مطلع عام 2022، توجد في البلد الغني بالنفط حكومتان، إحداهما برئاسة أسامة حماد وكلفها مجلس النواب (شرق)، والأخرى معترف بها من الأمم المتحدة ومقرها في العاصمة طرابلس (غرب)، وهي حكومة الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة يكلفها برلمان جديد منتخب.
وأضاف القندولي: “وهناك تحديات أخرى تكمن في عدم وجود بدائل للمواصلات الخاصة، بمعنى أنه لا يوجد لدينا وسائل نقل جماعي مثل البواخر والقطارات والحافلات الجماعية”.
وأوضح أن “جميع الليبيين يعتمدون على سيارتهم الخاصة، سواء في حركة الأفراد أو نقل البضائع”.
أما الغضب الشعبي الذي ظهر مؤخرا، فأرجعه القندولي إلى “عدم وضوح رؤية الحكومة في برنامج رفع الدعم، فالخطة غير مدروسة”.
وتابع: “لم يوكل الأمر إلى أهل الاختصاص، مثل وزارة الاقتصاد والمؤسسة الوطنية للنفط ووزارة المالية وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات الليبية والفنيين والمهنيين في هذا المجال. يجب أن يسبق هذا القرار اجتماعات وورش عمل مكثفة برعاية الحكومة”.
خطوات تسبق القرار
ومؤيدا ما تسعى إليه حكومة الدبيبة، قال القندولي إن “ليبيا في أشد الحاجة فعلا لرفع الدعم عن المحروقات؛ لأن تهريبه أصبح مشكلة، والحكومة جزء منها؛ لأنه يتوجب عليها العمل على وضع الخطط والبرامج التي تحد من التهريب المستمر للوقود”.
وتابع: “رفع الدعم سيحد من عمليات التهريب؛ فلن يكون هناك فارق في الأسعار، وبالتالي لن يكون هناك أي استفادة من نقل المحروقات إلى خارج البلاد، ويمكن للحكومة إن رغبت أن تبيعها بسعرها العادل للدول الراغبة، ولن يؤثر على حصة المواطن”.
وشدد على أن “الليبيين لا يستفيدون من جزء كبير من دعم المحروقات، بينما يتمتع به الأجانب والمغتربون على حساب المواطنين.. لهذا يجب على السلطات وضع الآليات الكافية لضمان عدم هدر المزيد من الأموال”.
وبحسب القندولي فإن “اقتصاديات الدول المتقدمة تخلت عن فكرة الدعم؛ فالصحيح أن تُباع السلع بأثمانها الحقيقة، ولا ضير من أن تكون الدولة هي التي تراقب الأسعار في الأسواق. وعلى الحكومة إتباع خطوات تسبق قرار رفع الدعم”.
ومن هذه الخطوات، كما أوضح: “الرفع التدريجي للدعم مع وضع آليات لتقليل الاعتماد على وسائل النقل الخاصة والتركيز على تفعيل وسائل النقل الجماعي داخل المدن وخارجها في أسرع وقت ممكن، وتفعيل وسائل نقل وشحن البضائع بالقطارات وبواخر النقل والطائرات”.
وتابع: “يمكن أيضا تفعيل الخدمات الإلكترونية والاستفادة منها عبر تطبيقات أو كود أو كبون يصرف لكل مواطن يرغب في شراء الوقود بالسعر المدعوم، أو أن يستبدل قيمة هذا الدعم بالنقد”.
واستطرد: “وفي حالة نفاد حصته (المواطن) يشتري الوقود بالسعر العادل له.. وأيضا أصحاب وسائل النقل يمكن أن يسري عليهم (رفع الدعم)، مع زيادة حصتهم من الكميات نظرا لطبيعة العمل”.
كما دعا القندولي إلى “وضع الآليات والخطوات السريعة للقضاء على المهربين للوقود بقوة القانون والدولة؛ فهذا الأمر يسبب الأضرار الجسيمة للاقتصاد”.
الاستجابة الشعبية تظل تحدي
أما المحلل السياسي الليبي محمد محفوظ فاعتبر أن “التحدي الأبرز الذي قد يواجه تنفيذ قرار رفع الدعم أو استبداله يكمن في الاستجابة الشعبية”.
وقال محفوظ للأناضول: “أما التحديات الأخرى فتكمن في مدى قدرة الحكومة على ضبط الأسعار وتنفيذ آليات استبدال الدعم وتفعيل القرار في كل أنحاء ليبيا، خاصة في ظل الانقسام”.
وتابع: “بالتالي هذا الأمر من المستحيل تطبيقه، وفي حالة تم تطبيقه سيرسخ للانقسام وسيؤدي إلى وجود دولتين في دولة واحدة.. دولة فيها سعر الوقود بالسعر القديم والدولة الأخرى بالسعر الجديد، وسوف تنشأ من خلاله ظاهرة التهريب بين شرق البلاد وغربها”.
في المقابل، قال محفوظ إن “ليبيا تحتاج إلى معالجات اقتصادية بينها معالجة ملف الوقود، وليس رفع الدعم عنه، عبر آليات اقتصادية تضمن الحد من مسألة التهريب وتضمن أن أموال الدعم تصل إلى مستحقيها”.
وشدد على أن “هذه المعالجات تهدف إلى الحد من الهدر الكبير جدا في الوقود، فما تستهلكه ليبيا أكبر بأضعاف مضاعفة من دول أخرى هي أكبر حتى منا في عدد السكان”.
وأردف: “وبالتالي من البديهيات أن يكون هناك إصلاح ومعالجات اقتصادية وفق خطة شاملة لا تتعلق بملف الوقود فقط، بل بأشياء وقضايا أخرى ضمن خطة إنعاش اقتصادية شاملة”.
واعتبر أنه “في ظل هذا الانقسام من المستحيل تطبيق أي إجراءات في مسألة الدعم، بالرغم من أن رفع الدعم أو استبداله سيحد بشكل كبير جدا من عمليات التهريب”.
محفوظ استدرك: “ولكن تظل الإشكالية في مسألة الانقسام، فمع وجود صراع تنفيذي وانقسام سياسي، يستحيل تنفيذ أي إجراءات أو إصلاحات اقتصادية”.