اجتماعيالرئيسيةالراي

رأي- وسائل التواصل الانعزالية

* كتب/ أنس أبوشعالة،

الإنسان كائن مدني بطبعه كما يقول ابن خلدون، ولا يستطيع العيش بمفرده، حتى بداية الخلق نجد أن الله قد خلق مع آدم حواء حتى تؤنسه وتبدد وحشته، كما أن التكاثر لا يكون بفرد دون زوج، وهذا يعني أن الفرد منفرداً لا يكون ذا قيمة فرداً منفرداً.

بيد أننا نرى شيوع وسمو وعلو المفهوم الفرداني الذي جعل من الفرد كائناً معزولاً منعزلاً عن أسرته وبيئته ومجتمعه، بل حتى عن هويته وعقيدته وموروثه الثقافي.

فالطفل ينشأ وحيداً أمام شاشات التلفزيون، ولا يبلغ الرابعة من عمره حتى يصير الهاتف النقال والآيباد الأب والأم لذاك الطفل، الذي يسبر أغوار العوالم الخفية والغريبة والموحشة والمتوحشة، منفرداً وحيداً منعزلاً عن والديه، وترى هؤلاء سعداء من تجنب العناء والشقاء بسبب ذلك الطفل الهائم في عالم غير العالم.

كل عضو في الأسرة تراه منزوياً حاملاً جهازه النقال، لديه فيه أحباب وأصحاب وأقران وأهواء وإغواء، وكل ما يمكن الولوج إليه من علوم الإنسان وعوالم الشيطان، حتى من دخول الحمام لقضاء الحاجة لا يتم إلا باصطحاب الهاتف، الذي لا ينفك عن صاحبه إلا بالميتة الصغرى نوماً أو بالكبرى زوالاً.

حتى التواصل صار أكثر حلاوة وطراوة ونداوة، من خلال الهاتف بمختلف التطبيقات الذكية، لا لشيء وإنما لأن صاحبك الذي تحاوره لن يعطيك من وقته وذهنه وفكره، وهو معك ببدنه، إذ حينذاك سيكون مشغولاً أيضاً بهاتفه النقال مع شخص آخر، فصار الهاتف هو الوعاء الذي يجمع الأفراد، وصار الحضور الافتراضي أكبر تأثيراً، وأشد وقعاً على الأفراد الذين في مجموعهم لا يشكلون مجتمعاً حقيقياً، بل مجموعة متناثرة من الأفراد، يسبحون في فلك فتراضي غير ملموس، ولكن تأثيره على كل إنسان جسيم للغاية.

هذه الحالة السائدة نجم عنها تفكك المجتمع وانسلاخه عن ذاته، فالفرد صار متابعاً للصور المثالية التي تُنشر على وسائل التواصل “الاجتماعية”، وأنا أسمّيها وسائل التواصل الفردانية، أو وسائل التواصل الانعزالية، وتكون الأحلام حقيقةً مشاهدة، والحقيقة وهم كالسراب يحسبه الظمآن ماءً، ويصير الخيال هو الحقيقة، وتغدو الحقيقة هي الخيال، ويستصعب على المرء -والحال كذلك- إثبات الحقيقة، كما يشق عليه نفي الوهم الذي صار في عقول الأفراد حقيقة مسلما بها في العقل والوجدان.

ولهذا كله صارت القيم والأخلاق والأفكار والأهواء تسبح وفق تيار المعروض، بزخرف الزيف على وسائل التواصل الانعزالية، وينشأ الناس خارج رحم المجتمع، ويركنون للمتابعة والنظر، وتترهل قواهم عن الإنتاج والإبداع والعمل والإتقان، حتى تربية الأبناء صارت من مهام تلك الوسائل الافتراضية الغاشمة، التي تقوم على زيغ الأبصار وفُحش الأخلاق وشيوع الفكر الفرداني، الذي يخطف الإنسان من مجتمعه وبيئته، بل يسلخه من ذاته ويجعله رهين الهيام وراء الأوهام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى