* كتب/ وائل قنديل،
لقاء روما بين وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش ونظيرها الصهيوني الذي فضح سرّه، سواء كان مغامرة شخصية للوزيرة، أو محاولة جسّ نبض من حكومتها، فإن المؤكّد الوحيد هنا أن الشعب الليبي أنجز عملًا استثنائيًا ونادرًا فيما خصّ مقاومة التطبيع بالفعل لا بالكلام.
هذا الشعب الذي حاصر مبنى وزارة الخارجية وحاول اقتحامها احتجاجًا على لقاء روما، ولم يهدأ غضبُه إلا بعد استصدار قرار إقالة وزيرة الخارجية، أحيا الأمل في أن الجماهير العربية لم تمُت، كما أنها تبقى الداعم الأوفى الوحيد للقضية الفلسطينية، ذلك أن الليبيين فعلوا ما لم تستطع شعوبٌ عربيةٌ أخرى فعله، حتى وإن كانت تحمل المواقف والمشاعر ذاتها تجاه فلسطين ومسألة التطبيع مع الاحتلال.
لا يهمّ هنا الاستغراق في الجدل حول ما إذا كان رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة على علم مسبق بخطوة وزير خارجيته، أم أنه بالفعل شعر بالصدمة مثل الجماهير، فقرّر إبعادها وإحالتها إلى التحقيق، بقدر ما يصبح الأهم أننا بصدد مجموعة من الحقائق التي تبعث على البهجة:
أولى هذه الحقائق أن هناك من الشعب العربي من لا يزال قادرًا على النزول إلى الشارع من أجل فلسطين، بعيدًا عن الشجب والتنديد والتنفيس عن الغضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الحقيقة الثانية أن هناك سلطة لم تقابل هذا الغضب الشعبي بالبطش الأمني وقرارات الاعتقال والاتهام بالإرهاب أو المسّ بالأمن القومي والمصلحة العليا للبلد، بل رضخت لهذا الغضب النبيل واستجابت لمطلبه الوحيد، سواء مشاركًة في الموقف ذاته أو تملقًا لهذه الحالة من الفوران الشعبي.
ثالثة الحقائق، وأهمها، أن ردّات الفعل القادمة من الكيان الصهيوني على هذه الغضبة الليبية الناجعة ضد التطبيع تكشف وكأن الاحتلال قد تعرّض لهزيمةٍ مؤلمةٍ في ميدان معركة، بالنظر إلى حجم الأسى الذي اعترى الدوائر السياسية والإعلامية الإسرائيلية على ضياع فرصة إسقاط بلد عربي جديد في غواية التطبيع، وهو الأسى الذي يتّخذ شكلًا مضاعفًا في الحالة الليبية بالذات، كون نجاح المخطّط الأميركي الصهيوني لاصطيادها تطبيعيًا، يجعل الجزائر، المستعصية على التطبيع، تحت حصار تطبيعي من الشرق والغرب، بما يضعها وحيدة معزولة وسط غابة تطبيع عرب شمال أفريقيا.
ثم حقيقة مهمة أخرى، أن الاستقطابات الحادّة بين مكونات المجتمع الليبي لم تجرف في طريقها الالتفاف الشعبي حول موضوع فلسطين، الأمر الذي يقول إنه مهما كانت الصراعات والتجاذبات بين أبناء الوطن الواحد فإنهم يظلّون متحدين حول الموقف من القضية المحورية للشعب العربي، حال احتفاظه بهويته الحضارية والإنسانية.
السؤال الأهم هنا: هل نستطيع القول إن ليبيا محصّنة بالقدر الكافي ضد السقوط في فخّ التطبيع؟
الشاهد أن ملفّ الأزمة الليبية واقع تحت وصاية أطراف إقليمية متنافسة، لكنها كذلك تتنافس، في الوقت ذاته، على الذهاب بعيدًا على طريق التطبيع الاقتصادي والسياسي مع الكيان الصهيوني، والمقصود هنا كل من القاهرة وأنقرة، اللتين تختلفان في مسائل عديدة، لكنهما تتفقان على التطبيع، إذ يسعى كل طرفٍ إلى تطوير علاقاته مع الاحتلال، بهدف الخروج بأكبر مكاسب ممكنة من غاز شرق المتوسط، وهي المسألة التي تشمل ليبيا أيضًا، والتي تدخل في نطاق دول الغاز.
وبالنظر إلى أن المشروع الأميركي الإسرائيلي للتطبيع انتقل من مرحلة “الأرض مقابل السلام” إلى مرحلة التطبيع بالغاز أو الغاز مقابل السلام، فإن كل العواصم العربية الموجودة على خرائط غاز المتوسّط مدرجة على قوائم التطبيع، الذي يستخدم آلية بالتفاوض حول تعيين الحدود البحرية، كما جرى في الحالة اللبنانية نهاية العام الماضي، لتكون الغاية النهائية فرض التطبيع الاقتصادي والسياسي، كما هو مرسومٌ في سيناريوهات الشرق الأوسط الجديد.
غير أن هذا كله يمكن أن يكون حرثًا في البحر، لو بقي الشعب الليبي محتفظًا بحيويته ومناعته ضد السقوط في قاع التطبيع.