
* كتب/ محمد أبوفلغة،
لا يصدر الشر أو الظلم بالضرورة عن نية سيئة أو كره. كثيرًا ما يكون عجز المرء عن وضع نفسه مكان الآخر هو أساس ما يقوم به من شر أو ظلم؛ أي أن الأخير ينتج غالبًا عن غياب صوت الضمير، وهذا الغياب وارد وعادي ويحدث باستمرار. هذا ما عنته المفكرة الأمريكية الألمانية “حنا آرندت” بكلمة “تفاهة الشر”.
تعني هذه الكلمة أن الشر لا يتطلب جموحًا أو اضطرابًا يفوق المعتاد، كما قد يظن الناس. ويعني هذا أن الإنسان، أي إنسان، قادر عمليًا على ارتكاب أبشع الجرائم، بل وتبريرها كذلك.
أسوأ ما قد ينحط إليه المرء هو أن يرتكب ويبرر ما كان يمقته سابقًا عندما كان هو نفسه في موقع الضحية؛ أي أن تتحول ضحية الأمس إلى جلاد اليوم. يحدث هذا التحول دون أن يشعر المرء. ومع هذا التحول تعمى القلوب التي في الصدور فيعجز الجلاد عن وضع نفسه في مكان الضحية، مقتنعاً بكونه لا يزال ضحية. تسيطر عقلية المظلومية عليه حتى لا يستطيع الخلاص منها. ولكن كيف يحدث ذلك عمليًا. هذه محاولة للإجابة عن سؤال: كيف تتحول الضحية إلى جلاد؟ مجمعة من أفكار ودراسات مفكرين من الشرق والغرب أهمهم حنا آرندت وياسين الحاج صالح. ينطبق هذا الطرح على الفرد كما ينطبق على الجماعة.
في البداية، عندما يتعرض الفرد للظلم أو التهجم، يكون رد الفعل الأولي هو الانكفاء على الذات ماديا ومعنويا. ينكفئ المرء على ذاته ماديا بمعنى أنه ينكمش على نفسه حتى يقلص مساحة السطح المتعرض للهجوم، هذا رد فعل طبيعي يمكن ملاحظته على الدوام. وينكفئ المرء على ذاته معنويا بمعنى أنه ينعزل عن محيطه وينعزل مع نفسه وأفكاره. في وسط هذا الانعزال، يحاول المرء تفسير ما تعرض له، وغالباً ما يبدأ التفسير من الظلم نفسه فيقول إنني ظُلمت لأنني أنا من أنا، ويقول لنفسه إن هذا الظلم استهداف شخصي وحصري له، أو يقول “أنا مظلوم بغض النظر عما أفعل”. هذه هي الطبقة الأولى من المظلومية والخطوة الأولى في رحلة الانتقال من الضحية إلى الجلاد.