
* كتب/ عمران اشتيوي،
في عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد الحقيقة كما عهدناها مرآةً شفافة تعكس الواقع وتصفه بصدق، بل أصبحت مادة قابلة للتشكيل تبعاً للأهواء والانفعالات والمصالح. لم يعد السؤال: “ما الذي حدث؟” بل أصبح: “ما الذي أريد أن أصدق أنه حدث؟”. ومع انتشار وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وصار لكلٍ منبره الخاص، وتراجع دور الإعلام المهني، أُفسِح المجال أمام روايات متضاربة، تُغذَّى بالعواطف لا بالحقائق، وتنتشر كالنار في الهشيم.
ظهر مصطلح (ما بعد الحقيقة)، ليصف هذه المرحلة التي تغدو فيها المشاعر والانطباعات الشخصية أكثر تأثيرًا من الحقائق الموضوعية في تشكيل الرأي العام. في هذا السياق، بات التضليل متاحًا وسهلًا، وصارت المعلومة المزيفة تملك من الحضور والانتشار ما يتجاوز المعلومة الدقيقة. ويُستثمر هذا الواقع في الخطاب السياسي والإعلامي وحتى التجاري، حيث يُعاد تشكيل الوقائع لتخدم أهدافًا آنية، بغض النظر عن صدقها من عدمه.
تبدو الحقيقة اليوم مطلباً عزيزاً وسلعة نادرة، تتطلب جهدًا للوصول إليها. لم يعد القارئ أو المتابع متلقيًا سلبيًا فحسب، بل بات مطالبًا بالتحقق والتمحيص والتمييز بين الغث والسمين. ووسط هذا الضباب، تبرز أهمية تنمية الوعي النقدي، وتعزيز الثقافة الإعلامية، وترسيخ القيم الأخلاقية في التعامل مع المعلومة.
إن التحدي الأكبر في عصر ما بعد الحقيقة لا يكمن في غزارة المعلومات، بل في تمحيصها وغربلتها. وبينما تزداد الحاجة إلى مرجعيات صادقة وموثوقة، تظل الحقيقة -رغم كل شيء- هدفًا ساميًا يستحق أن يُسعى إليه، لا أن يُختزل أو يُشوَّه تحت وطأة المصلحة أو اللامبالاة.



