
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
عندما كنا أطفالاً.. كانت أمهادنا مطليّة بألوان زاهية مشبعة بمادة الرصاص.. نركب السيارات دون أحزمة أمان أو وسائد هوائية.. كان السفر في الصندوق الخلفي للشاحنة رحلة إلى الفضاء المفتوح..
نخرج للّعب شرط العودة إلى الدار قبل حلول الظلام.. تعلّمنا حلّ كل مشكلة تعترض لعبنا بمشادة بريئة.. ترتفع فيها أصواتنا الصغيرة.. ثم نستأنف لعبنا.. نجري بدراجاتنا دون أن نرتدي خوذة واقية.. نشرب الماء من فوهة الصنبور أو خرطوم الحديقة أو ساقية السانية.. وليس من زجاجة ماء معدني معقمة.. نتناول الكعك المنزلي والخبز الجاف والسمن المحلي.. ونرتوي من المشروبات السكرية ولم نعانِ من وزن زائد أو مفرط.. كنا نأكل خمسة من قصعة واحدة ونلحس أصابعنا ونشرب من نفس الإناء ولم يمُت منا أحد بسبب انتقال عدوى..
ربما كنا متخلفين حقاً.. لكن لعلّ تخلفنا كان سبب سعادتنا ..نقضي ساعات وساعات في صنع عربات من لوح خشب وخردة.. وكان الحظ نصيب رفاقنا من كانت شوارعهم منحدرة.. كنا نزحلق عرباتنا إلى أسفل الشارع.. وفي منتصف الطريق ندرك أنها دون فرامل.. فنصدم جذوع الأشجار والحواجز وحواف الأرصفة.. طالما خدشنا أصابعنا وسال دم رُكبنا.. فنضحك ودموعنا تنهمر من شدة الألم.. نصطدم ببعضنا.. وربما فقد أحدنا سناً من أسنانه دون أن يرفع ضدنا دعوى قضائية..
نشكل فريقين للعب مباراة ونتنازع لنكون ضمن فريق أمهرنا مراوغة وأكثرنا هيمنة على كرة الجرابات منا.. كانت أحداث شارعنا مبعث فرحة وبهجة.. لم يكن أحدنا مخطئا.. ففي لعبنا ندرك معنى الفوز والهزيمة..
نذهب إلى المدرسة ونعود ساعة الغداء.. وليس بمعيتنا هاتف محمول يحدد مكان وجودنا.. ولا يقدر أحد معرفة موقعنا.. لم يكن أحد يتصور يوماً أن يراقب الكبار صغارنا عن بعد.. بل يكتفي بمعرفة من هم أقراننا ومن يسير رفقتنا.. في الدراسة.. بعضنا لم يكن متألقاً كالآخرين ويرسب ليكرر سنته دون أن يلجأ إلى طبيب نفساني أو موجه اجتماعي.. فقط يعيد السنة ببساطة ويحصل على فرصة ثانية.. ربما أفضل من سابقتها..
لم يكن أحدنا يعاني من عسر القراءة أو مشاكل عدم الانتباه أو فرط النشاط.. لم يكن لدينا “بلاي ستيشن” أو “نينتندو 64” أو “آيفون” تعزلنا عن الآخرين للعيش في انطواء دائم.. لم نمشِ بالطرقات ورقابنا مكسورة كهؤلاء السائرين اليوم وأنظارهم مثبتة إلى الأرض.. أو يتحدثون وحدهم في الشوارع كالمجانين.. لم تكن هناك خيبات أمل تؤدي إلى الصدمة.. فالمحيطون بنا كانوا المعالج النفساني الذي يواسيك وينتشلك من همومك الصغيرة وينسيك أحزانك.. لذا.. كنا نعلم منذ الصغر معنى الإخفاقات وكيف التعامل مع المسؤوليات.. كان للحياة معنى وطعم.. فنحن لم نختر زمننا أو رفاقنا.. إنما القدر وضعنا بينهم لنكبر معاً.. فهل أنت من ذاك الجيل؟
سيقول غيرنا إن جيلنا كان مملاً رتيباً.. لكننا كنا حقاً قيمة مضافة إلى ذاك الزمن.. نعم كنا سعداء!