
* كتب/ محمد البلعزي،
أقرّ المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، الذي نظمته الأمم المتحدة في الفترة من 30 يونيو إلى 3 يوليو الجاري بمدينة إشبيلية الأندلسية (إسبانيا)، وثيقة تُمثل في حد ذاتها التزاماً متعدد الأطراف للدفع بعجلة تمويل التنمية، في وقت يشهد فيه العالم تفكك هياكل التعاون الدولي والفراغ المالي الذي خلفته الولايات المتحدة، أكبر مساهم فيها.
حدد مؤتمر التنمية أهدافاً عاجلة لا يمكن تحقيقها إلا بإرادة سياسية، غائبة حالياً، فالبيان الختامي للمؤتمر، والذي ُسمى ببيان “التزام إشبيلية”، لم يأت بأجندة جديدة، بل عزز الأهداف التي حددتها المؤتمرات الثلاثة التي عُقدت حتى الآن، وإن كان أقل من توقعات المجتمع المدني والاحتياجات الحقيقية للسياق الراهن.
في هذا البيان، تُقر الدول بأن الوقت ينفد لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030. فرغم مرور عقد كامل من الالتزامات، لا يزال العالم يواجه مشاكل حادة من الفقر المدقع وانعدام المساواة وأزمة مناخية مستمرة بلا هوادة.
وتُشير الوثيقة إلى أن فجوة التمويل اللازمة لتحقيق هذه الأهداف تبلغ الآن أربعة تريليونات دولار، وهو مستوى مُقلق يُعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي السنوي لألمانيا أو اليابان. ثم إن الالتزام، رغم اسمه، ليس نصاً ملزماً ولا يتمتع بمكانة معاهدة دولية، إلا أنه على الأقل يوفر للدول إطاراً أدنى للعمل ضمنه في السنوات القادمة، والتي ستتميز بلا شك برؤية دونالد ترامب في التعامل مع العلاقات الدولية.
والآن بعد أن عاد العالم إلى الاستثمار في إعادة التسلح وزيادة نفقات الدفاع، أكدت حكومة إسبانيا مجدداً في هذا المؤتمر التزامها بتخصيص 0.7٪ من ناتجها المحلي الإجمالي لمجال التعاون، بمثل ما اتفقت عليه الأمم المتحدة عام 1970، وهو أمر لا تلتزم به حالياً سوى أربع دول: الدنمارك ولوكسمبورغ والنرويج والسويد.
هذا الالتزام يتناقض مع انخفاض الأموال المخصصة من قبل الولايات المتحدة، وكذلك من قبل دول مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا. فإسبانيا تخصص حالياً 0.24٪ فقط من إجمالي ناتجها القومي، وتتطلب زيادة هذا التخصيص الموافقة على ميزانية جديدة للدولة، وهو أمر لا يبدو واقعياً على المدى القصير.
سلّط مؤتمر إشبيلية الضوء على مشكلة التمويل الهائلة التي تواجه التعاون الدولي، وعلى ضرورة إصلاح ما يُسمى بالهيكل المالي الدولي لمنع ديون بعض الدول من ديمومة فقرها. وتكفي هنا حقيقة واحدة، وهي أن 3.4 مليار شخص يعيشون اليوم في دول تُنفق على دفع فوائد ديونها أكثر مما تُنفقه على الرعاية الصحية أو التعليم. ومع تراجع مساهمات القوى الكبرى، بات من الضروري البحث عن مصادر دخل جديدة، فقد رفعت إسبانيا والبرازيل راية “مجموعة العشرين” في قمتهما الأخيرة للترويج لضريبة عالمية بنسبة 2% على ثروات الأفراد فاحشي الثراء، أولئك الذين تتجاوز ثرواتهم مليار دولار. ومن المتوقع أن توفر هذه المبادرة، التي انضمت إليها جنوب إفريقيا بالفعل، إيرادات سنوية قدرها 250 مليار دولار لمكافحة الفقر والجوع وتغير المناخ.
رغم ذلك، فإن الرئيس الأمريكي ترامب هو الثقل الموازن مرة أخرى: فإذا رفض الاقتراح الأصلي، فلا يبدو أنه سيُكلّل بالنجاح الآن في ظل هذا النمط الجديد. وعلى عكس ذلك، اتفقت دول “مجموعة السبع” نهاية يونيو الماضي، على استثناء الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات من ضريبة الحد الأدنى البالغة 15%، التي وافقت عليها 130 دولة قبل أربع سنوات بقيادة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والتي اعتُبرت إنجازًا تاريخيًا.
هذا التنازل الجديد أمام الولايات المتحدة يُظهر جلياً الوضع الجيوسياسي الحالي، ولكن لكيلا نخدع أنفسنا، فإن الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، لم يجرؤ أيضاً على إطلاق اتفاقية الضرائب لعام 2021، وعليه فإن التعاون الدولي من أجل التنمية يتطلب الكثير من التنازلات، لكن ذلك لن يتحقق إلا بوجود إرادة سياسية مستدامة.