الرئيسيةالراي

رأي- قال أنا ربكم الأعلى..

* كتب/ خليفة البشباش،

بينما كانت مصر تعيش آخر جمعة في عهد مبارك، وقبيل أيام من تنحيه، والشوارع ملآى بالمستبشرين بقرب أفول عهده فيما عرف بجمعة الرحيل، ألقيت أفصح وأبلغ خطبة عن الثورة المصرية وشقيقاتها، في بلد لا ينطق العربية، وأمام ألوف المصلين الذين لا يفهمونها.

بلسان طلق لا يتلعثم، وإلقاء بليغ عز نظيره، واستيعاب فريد للتاريخ الثقافي والسياسي للكنانة، ألقى آية الله علي خامنئي، المرشد الإيراني خطبته من قلب طهران، – وعلى غير العادة- باللغة العربية التي يتقنها، وهو الذي ترجم كتب جبران خليل جبران، وسيد قطب، وآخرين إلى الفارسية، قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره!.

وأشاد خامنئي أيما إشادة بالثورة المصرية على من وصفه بالدكتاتور العميل، معتبرا هذا الحدث التاريخي بداية لتخلص مصر والمنطقة من الهيمنة الأمريكية، وعودتها إلى الموقف الصحيح تجاه القضية الفلسطينية، بعد عقود من اتفاقية العار في كامب ديفد، “وإذلال الشعب لإرضاء غرور أعداءه” وتحويل بلده إلى حليف للصهيونية، كما حذر خامنئي -مبكرا- من أن هذا النظام العميل سيحاول العودة بأساليب أخرى، وبمساعدة من حلفائه، وهو ما حدث بالفعل لاحقا!

بعد أيام قليلة من تلك الخطبة، ستمتد الموجة، وتنطلق الثورة بالتزامن في أربع دول، ليبيا، والبحرين، وسوريا، واليمن، فيما بدا أن الكرة تتدحرج أسرع مما كان متوقعا، وسيخرج هذه المرة، أحد أكثر الرجال تأثيرا في المنطقة، الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ويشيد بتلك الثورات –عدا واحدة-، ويخص انتفاضة الشعب الليبي على طاغوته بإشادات متكررة، واصفا ثوارها بالمجاهدين مستذكرا فيهم عمر المختار، وثبت على موقفه هذا حتى شاركهم الفرح بانتصارهم، رغم جدل التدخل الدولي.

وبلغ انتشاء محور المقاومة بالثورات ذروته في البحرين، ولم يجد نصر الله، كما كل محور المقاومة، أي إشكال في تقبل حقيقة أن الغالبية المقموعة المظلومة من الشيعة، قد انتفضت على الدكتاتور المجرم السني، ولم يكن صعبا قراءة هذا الحدث في ضوء ثورة على القمع والطغيان، من أجل الحرية والكرامة، وكان انتصارها وشيكا، لولا التدخل العسكري الذي قاده آل سعود، في أول تحرك عسكري لبدء ما سمي لاحقا بالثورة المضادة.

لكن الأمر اختلف كليا، عندما تعلق الأمر بسوريا، واستعصى على نصر الله وخامنئي تقبل أن الغالبية الساحقة المقموعة هذه المرة سنية، والمجرم الدكتاتور الذي لا شك في إجرامه وفساده شيعي، وأنه على رغم مواقفه السياسية تجاه إسرائيل –التي تحتل جزءا من أرض دولته-، فإن شعبه لا ينظر إليه إلا كمجرم فاسد عميل جبان، لم يحرر أرضا ولم ينصف شعبا ولم يحفظ كرامة، وراح الرجلان وأتباعهما يطرحون قراءات متكلفة للمشهد!

وبعد أشهر من المظاهرات السلمية التي ووجهت بالقمع، انتقل المشهد في سوريا إلى مواجهة عسكرية بين “الجيش العربي السوري” الذي أنفقت عليه مليارات على مدى عقود، وثوار سوريين عشوائيين يتدربون على السلاح في وسط المعركة، ومثلما كان متوقعا من جيش نظامي عربي عندما يكلف بعملية تتجاوز فض الاعتصامات وتفريق المظاهرات السلمية، أظهر الجيش السوري أداء مثيرا للسخرية، وسقطت المدن والمحافظات السورية الكبرى واحدة تلو الأخرى، وهربت وحدات الجيش المتألفة من كومة من اللصوص والأراذل والجبناء عديمي الفائدة، وفي أقل من عام واحد أصبحت دمشق محاصرة بل سيطر المتمردون على بعض أحيائها، وأصبح السؤال الملح في المشهد العسكري السوري.. من سيسيطر على دمشق بعد سقوط الأسد؟

أمام هذا الخطر المحدق، قررت إيران دون تردد التدخل لإنقاذ حليفها، وجرت معها سيولا من المليشيات الشيعية متعددة الجنسيات إلى سوريا، وفي مشهد مثير للضحك، انطلقت المليشيات الشيعية العراقية التي كانت تجتث حزب “البعث” في العراق، لإنقاذ حزب “البعث” في سوريا!، ورغم أنها قاتلت إلى جانب الأمريكيين في بلدها الذي يعج بالقواعد الأمريكية، لكنها كانت مصرة على التصدي للمؤامرة الأمريكية الخفية في سوريا، وفي الواقع، لم يكن انخراط مليشيات وظيفية كالفاطمين الأفغان مثلا، أو فصائل الحشد الشعبي المعروفة بتجذرها في شبكة الفساد والإجرام في العراق، وعلاقاتها المعقدة مع السلطة والتحالف الدولي مستغربا أو مثيرا للتساؤلات.

لكن خيار “حزب الله” كان أكثر حساسية وترددا، وملغما بالتساؤلات، وأشد تأثيرا في معادلة إبعاد شبح الهزيمة عن الأسد، وبخلاف بقية المجموعات الشيعية التي كانت منغمسة حتى جبهتها في الفساد والصراعات الطائفية، كان حزب الله حتى تلك اللحظة يحظى بشعبية لا منافس لها في العالم الإسلامي، ويحتفظ بصورة ناصعة عن دوره في صد إسرائيل عام 2006ـ وقد أضافت شخصية نصر الله الذي يتمتع بـ”كاريزما” استثنائية، وفكر حاذق، وقوة حجة وقدرة على الخطابة مزيدا من “الأسطرة” على سيرة الرجل وحزبه.

نفت قيادة الحزب في البداية انخراطها رغم توافر الدلائل على وجود مقاتليه، ويوما بعد يوم كان يتزايد الانخراط، قبل أن يعلن نصر الله رسميا تدخل الحزب في سوريا لوقف ما أسماها المؤامرة الأمريكية، مجتهدا هو وإعلام الحزب في سرد أدلة على وجود دور أمريكي وراء ما يحدث في سورية، رغم أن الدور الأمريكي كان موجودا، وعلنيا، في جل الثورات التي باركها وتحمس لها سابقا، فالمجتمع الدولي ونظامه العالمي لم يكن ليقف دون انخراط وإعادة تموضع في ظل التغيرات الهائلة.

من “القصير” بدأت مسيرة حزب الله “الطويلة” في الحرب السورية، وقد بدت الانتصارات في البداية مغرية، لكن الفصائل المعارضة ستطور نفسها هي الأخرى، والأهم، سينهمر سيل مقابل من المليشيات والمقاتلين الأجانب، وسيكون على حزب الله التعامل مع فصائل شرسة، مثل أحرار الشام، وجبهة النصرة، وداعش الذي ستظهر لاحقا وتقاتل الجميع، وسيتورط الحزب في مسيرة شاقة جدا وقتال لا نهاية له، وسيشكل هذا التجمع الاستثنائي المتناقض من المقاتلين المشبعين بالحماسة الدينية والعداء الطائفي، واحدا من أعقد وأشرس المسارح العسكرية في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وسينتج معارك ووقائع يصعب حتى تصديقها لمن لم يعايشها.

كان إعلان روسيا التدخل في سوريا لصالح الأسد لحظة الفرج بالنسبة له ولحلفائه، وأصبح بإمكانهم التحدث أخيرا على الانتصار والحتمي، واستفاد الأسد كما المجموعات المؤيدة له من غطاء جوي حاسم ومتطور، وتسليح نوعي، ودور سياسي لإحدى أكبر القوى في العالم، ورحب الأسد بـ”القواعد العسكرية الروسية” التي ستساعده على تحرير أرضه!، ولكن -ويوجد لكن في كل ما هو سوري- لم تكن الأمور سهلة، على الرغم من كل هذا!

بينما كانت روسيا وإيران والقوى المرتبطة بها وعلى رأسها حزب الله يقلبون المعادلة تدريجيا لصالح الأسد، تحول جيش الأسد وشبيحته الجبناء إلى وحوش، وطوروا من سلوكهم الإجرامي المتجذر في تكوينهم أصلا، وافتتحت مسالخ بشرية جديدة على طول البلاد وعرضها، وعاثت وحداته الأمنية والعسكرية قتلا وتعذيبا وتهجيرا ونهبا وتجويعا للمدنيين قبل المقاتلين، كما كان بشار الأسد منهمكا في إعادة هندسة الديموغرافيا السورية للاحتفاظ بالمناطق المهمة، ولم يكن أمام الحزب سوى أن يغض الطرف عن كل هذه المأساة، ويواصل الحديث عن الأهمية الاستراتيجية لسوريا بالنسبة لمحور المقاومة.

وكان اضطرار نصر الله لتبرير تدخله في سوريا في كل خطاب يلقيه على مدى عشر سنوات، دليلا على التكلفة الباهظة لهذا التدخل، وكانت الكلمات تخذل الخطيب المفوه في كل مرة يحاول تأطير التدخل وكل تبعاته في طريق الحزب للقدس، وقد تغير المشهد السوري مرارا وتبدلت ألوان خريطته لدرجة أفقدت التعليلات والمعطيات القديمة أي قدر من الحجية، واستحدثت أخرى، ثم أخرى وأخرى، وقد خرج الوضع عن السيطرة تماما، وأصبحت الأراضي السورية مستنقعا لجميع أنواع التدخلات والقوات والقواعد الأجنبية، لكن الأسد مستقويا بالدعم الروسي كان لديه هدف واحد وبوصلة ثابتة: القتال ضد المعارضة و من يسميهم”الإرهابيين” و”تحرير كل الأراضي السورية” ما عدا الجولان طبعا، وكان على بقية الفصائل أن تتماهى مع هذا الهدف وتتجاهل ما سواه.

لقد تحول الانغماس في المستنقع السوري إلى معضلة غير قابلة للحل بالنسبة لحزب الله، فقد غيرت شراكته الطويلة مع نظام إجرامي ومليشيات فاسدة وحرب لا يمكن تجاهل أبعادها الطائفية، صورة الحزب المقاوم، وأضعفت شعبيته الإقليمية وموقفه الداخلي، وأضرت بشكل كبير القيمة الأخلاقية لسلاحه.

على الصعيد العسكري، خسر حزب الله في سوريا الآلاف من مقاتليه على مختلف المستويات، جلهم كانوا قد تلقوا تدريبات على التعامل مع عدو معقد مثل إسرائيل، وجرى تعويضهم بمقاتلين ولدوا من رحم الحرب السورية، واعتادوا القتال وهم متفوقون في العتاد، ومتمتعون بغطاء جوي متطور، روسي سوري، يواجهون كتلة من الفصائل المتنافرة ذات قدرة استخباراتية صفرية تماما.

الخسارة الكبرى للحزب كانت الانكشاف الكامل، والانهيار التام للبنية السرية للتنظيم، وفرت التحركات الجماعية والفردية للعدد الضخم من مقاتلي حزب الله في سوريا فرصة لا تصدق لإسرائيل، التي تتبعت تحركاتهم ومنشوراتهم وجنائزهم فردا فردا لسنوات طويلة، وبنت قاعدة بيانات ضخمة بشبكاتهم العائلية والاجتماعية والحزبية، وأماكن ترددهم وتحركاتهم وكل ما يتعلق بهم، حتى تمكنت من اختراق الحزب بأكمله.

ونتيجة لذلك، احتاجت اسرائيل لأسبوعين فقط لاغتيال جميع قيادات الصف الأول من حزب الله، بما في ذلك قائد الحزب، حسن نصر الله، وأبرز المرشحين لخلافته، وكمية هائلة من ترسانته، بينما احتاجت اسرائيل عاما كاملا من الحرب المميتة والتدمير الشامل والسيطرة شبه الكاملة على القطاع، لإعلان اغتيال محمد الضيف، وهو ادعاء ما يزال غير مؤكد، وجل قادة الكتائب الذين قضوا كانوا قد قتلوا في ساحة المعركة، وحررت عسكريا 4 رهائن فقط من أصل 251.

في لحظة الحقيقة، اختار نصر الله خيارا شجاعا بدخوله الحرب مساندة لغزة، ورفضه فصل الجبهات، لأن سحق المقاومة في غزة سيعني هزيمة كاملة لمحور المقاومة، وسيكون أي تحرك مستقبلي لتدارك خسارة كتلك بلا معنى، وخارج الزمان والتاريخ، لكن ما تم اعتباره في بداية الحرب ترددا من الحزب، وخطوات غير كافية، ربما يكون مجرد ترجمة للقدرات والتكتيكات المحدودة للحزب، مقابل التطور الكبير لعدوه، ربما قد جرى تضخيم تأثير “التسلح الكبير” الذي حصل عليه الحزب جراء الحرب السورية، مقارنة بالخسائر البشرية والاستخباراتية التي تلقاها.

في هذه اللحظات المصيرية للقضية الفلسطينية، والتحدي الوجودي لحزب الله، ماذا قدم بشار الأسد نظير التضحيات التي قدمها الحزب في سوريا؟ لا شيء تقريبا، لقد اختار بشار الأسد الوقوف على الحياد في حرب غزة، لأنه غاضب من ارتداء أحد قادة حماس وشاحا بعلم الثورة السورية!، والحياد هنا ليس إلا وقوفا علنيا مع إسرائيل، تبدو دمشق مثل القاهرة أو عمان أو أي عاصمة تطبيعية أخرى، لا تخرج فيها حتى مجرد مظاهرات ضد المجازر واستمرار الحرب تلك التي تخرج حتى في تل أبيب!

ويبدو التساؤل عن فتح جبهة الجولان مضحكا بشدة، ومنطقيا في نفس الوقت، منطقيا لأن هذا أقل ما يمكن أن يقدمه في لحظة يريد فيها الإسرائيلي إفناء حزب الله الذي قدم كل شيء للنظام السوري، ومضحكا بشدة، لأن الجميع يعرف أن ذلك لن يحدث، وأن الأسد لن يقامر بكرسيه تحت أي ظرف، ولم يحدث أن فتحت هذه الجبهة من قبل طيلة عقود طوال كان فيها النظام السوري أقوى مما هو عليه اليوم! ولم يغامر يوما بإطلاق حجر، عدا عن ذلك، اتخذ نظام الأسد خطوات لا تراجع عنها في العودة إلى “الحضن العربي التطبيعي” مقابل ريالات ودراهم خليجية يمكن أن تحسن وضعه الاقتصادي الصعب.

بشار الأسد، مثل أي ديكتاتور عربي، هو ابن الصدف، ألقت به جيناته إلى هذا المكان، وكانت أول تجربة سياسة في حياته هي رئاسته للدولة، وعدل الدستور على عجل لتمكينه من المنصب وهو مراهق، وقد كان أحمقا بشكل لا يعقل، وحاول منذ التسعينيات الحصول على اتفاق تطبيع يحفظ ماء الوجه دون جدوى، وصرح ذات مرة أنه قدم عرضا لرئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت آن ذاك، لكي يعيد إليه الجولان مقابل الاعتراف بإسرائيل وتبادل السفارات، وأردف متحسرا :”لكننا لم نتلق ردا”، ويمكنني تخيل الضحكات والقهقهات التي أطلقها أولمرت ومكتبه عند قراءة العرض.

وحتى مع تجاهل كل هذه المعطيات، ماذا يستطيع أن يقدم بشار الأسد، إذا افترضنا جدلا أنه يريد تقديم شيء ما، في الواقع لا يملك خيارات اقتصادية ولا عسكرية ولا سياسية كبيرة، سوى أن يبقي على وجود الرادارات والقواعد الإيرانية التي يتم استهدافها باستمرار، ولا تحدث تفوقا أو اختراقا يذكر.

لا يمكن إهمال الخيارات الضيقة جدا لحزب الله، كما هي الخيارات ضيقة لحماس، وسط بحر من الأنظمة التطبيعية العميلة، والجيوش المستعدة للوقوف مع إسرائيل ضد أي حركة تقاومها، لكن تدخل حزب الله في سوريا، كان زلّة مميتة، وواحدا من أكبر الأخطاء الاستراتيجية في التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة.

وربما، عليك تجاهل كل ما قرأت، لأن السؤال الذي ينبغي أن نفكر فيه هو: ما لكم وللرجل وقراراته وخيارات حزبه، ما أنتم صانعون ونتنياهو يوشك أن يقول في وجوهكم: أنا ربكم الأعلى؟

للكاتب أيضا: 

رأي- هزلية المعارك عند المتعالمين..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى