* كتب/ السنوسي بسيكري،
من أبرز ما برع فيه المشير خليفة حفتر هو القدرة على التضليل وقلب الوقائع بجرأة لا مثيل لها. ونجاح هذه السياسة تتطلب منفذين لا يعرفون للحياء والخجل طريقا، ورأيا عاما عنده القابلية الكبيرة لقبول التزييف وتصديق الكذب الصراح.
تضليل لم يتوقف
“Mister two weeks” أي “السيد أسبوعين”، وهو خليفة حفتر كما أسمته السفيرة الأمريكية الأسبق، ديبورا جونز، كرر وعده لأهل بنغازي بالقضاء على “الإرهابيين” خلال أسبوعين، وكان نَفَسُ الناطق العسكري باسم القيادة العامة أحمد المسماري طويلا في التضليل ولم يتردد في تكرار وعد الأسبوعين، وقد مضى على سابقه أشهرا طوال، ولم تنته حرب بنغازي إلا بعد ثلاث سنوات وكانت نتائجها كارثية ويدركها اليوم حتى من بُحت حناجرهم في الترويج لها.
سياسة التضليل المفضوحة تكررت في عدوان المشير على طرابلس، حتى أن الساخرين من أحمد المسماري جمعوا له وعوده بدخول طرابلس في بضعة أيام فبلغت نحو عشرين مرة خلال عشرة أشهر، وأكوام جثث ضحايا العدوان تتراكم والدمار يمحو كل يوم مباني جديدة من على وجه البسيطة، وموقف الرأي العام المضحوك عليه لم يتغير!!
كسرت شوكة الهجوم على غريان، وقتل المئات من أبناء المنطقة الشرقية، ولم يكن ذلك كافيا ليرتدع حفتر أو يعلو صوت العقلاء رافضين الاستمرار في العبث، وهزم شر هزيمة في ست مدن غرب وجنوب غرب طرابلس في بضعة أيام، وظل الحال على ما هو عليه من تضليل وتزييف، ثم جاءت ساعة صفر الاندحار الكبير، فقال المسماري إنه تغيير في المواقع وإعادة تمركز للقوات، واستمر صمت النخبة، واستمر خداع الرأي العام.
خطابات تعبوية كاذبة، وعبارات منمقة مضللة، ونبرة مغترة مفبركة: “دقت ساعة الصفر”..”لبيك طرابلس”..”أيام وتسطع أنوار الحرية”..”تفصلنا ساعات عن الفتح المبين”..الخ من الجمل التي نجح حفتر في خداع أنصاره بها فاندفعوا يهللون للعدوان ويبشرون بالانتصار القادم، فانهزم حفتر وذهبت وعوده “اليقينية” أدراج الرياح، ولم يعتذر هو ولا ناطقه العسكري عن كذبهما، ولم يقف النخبويون موقفا صادقا مع أنفسهم وأمام متابعيهم ليقولوا أن حفتر ضللنا جميعا وأن ما فعله خراب ودمار وأن الكثير من المقاتلين المنضوين تحت جيشه لا يختلفون عن الذين عبؤوا الحشود للقضاء عليهم في طرابلس، وأن الفساد المالي مستشري في الشرق كما هو في الغرب، وأن حقوق الإنسان لا حرمة لها وتنتهك بأبشع الصور في الشرق وتفوق ما يقع في طرابلس.
ما أشبه اليوم بالبارحة
وها هو حفتر اليوم يهدد ويتوعد بشن حرب جديدة، وها هو يستخدم الخطاب المضلل ذاته دون خجل، وها هي آلته الإعلامية والنخبة المطبلة تتقمص الدور نفسه دون حياء ولا تأنيب ضمير، فلماذا تخرس الألسنة وتصمت الحناجر رفضا للحرب وتنديدا بالتضليل، ألم تحن ساعة صفر وقف مغامرات حفتر التي كلفت البلاد الكثير؟!
حفتر غارق في بحر أوهام القوة والسطوة، ولا يرى إلا الدبابة والمدفع والطائرة سبيلا لتحقيق أمانيه في الجلوس على كرسي الحكم في العاصمة، فلماذا لا يدرك الموهومون أنه لن يستطع فعل ذلك، وحتى لو نجح فإنه غير مؤهل ولا قادر على إدارة البلاد وإخراجها من وضعها المتردي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى أمنيا، فمقاربته لفرض الأمن بالقوة الصماء في بنغازي كانت تكلفتها ضخمة ونتائجها مريعة، كما أنه لم يفلح في ترميم الدمار الذي خلفته حرب الثلاث سنوات فيها، وواقع الخدمات المتردية في الشرق على ما هو عليه دون تغيير أو تطوير، ولم يكن ضيق ذات اليد المبرر للفشل، فقد امتلأت خزائن حفتر بعشرات المليارات فأنفقها على مراكمة السلاح وتأجيج الحروب، فلماذا نظل نسير وراء أراجيفه ونصدق وعوده؟!
هناك موقف يتشكل محليا وخارجيا يتأسس على تحليل منطقي هو أن حفتر معرقل للوفاق وأنه من بين أبرز أسباب تردي الأوضاع منذ العام 2014م، وأن حلا سياسيا للأزمة الراهنة لا يمكن أن يقع وهو نافذ ومتمكن، إلا أنه موقف لا يزال خجولا، وما لم يتحصل هذا الرأي على الدعم الكافي لفرضه فإن احتواء الوضع غير ممكن بل إن الانزلاق أكثر إلى مستنقع التأزيم هو الأرجح.