
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
تمثل الظاهرة الترامبية.. بكل بساطة.. دورة تصاعدية في التركيبة الهيكلية لليبرالية الجديدة.. في انغماس سلطوي يتجاوز الصورة الكاريكاتيرية للفردية المتغطرسة والمجنونة.
ففي مسرحية “كاليغولا” مثلاً، وضع “ألبير كامو” الاستنتاج التالي على لسان الإمبراطور الروماني: “لقد اكتشفت للتو فائدة القوة وهي أن أجعل المستحيل ممكنا.
أتى إمبراطور آخر.. لكن في شكل ليبرالية جديدة كاسحة.. بمثل ما عبّر عنه “ميلتون فريدمان” تقريباً حين قال: “… إن المستحيل سياسياً يصبح لا مفر منه سياسياً”.. كان ذلك في لحظة تاريخية لم يتصور فيها إلا قِلة من الناس أن أصحاب المليارات قادرون على إقناع الجماهير بأن الدفاع عن مصالح الأقلية وأنانية الأثرياء أمر ملائم ومناسب. دخلنا عصر المستحيل والإسراف.. العالم اليوم لديه اهتمامات قليلة.. بقدر ما هي قوية للغاية. فقد قرر الرأسماليون الاستيلاء على الحكم بشكل مباشر.. يريدون سلطة غير محدودة.. مخيفة.. لأنهم يدركون أن الكراهية والغضب يجعلان الوحوش المستحيلة تتحول إلى “حيوانات أليفة.. حتى وإن كانت رهيبة ومخيفة”.. كما ذكرت الفيلسوفة “حنا أرندت”.. فنحن أنفسنا من الممكن أن نتحول إلى وحوش.
ثم إن الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) الزائفة.. المتمثلة في الزعم بحرية الاختيار وتقرير المصير ضد قمع دولة غير فعالة.. قائمة على نهب الأموال وجباية الضرائب المجحفة.. تمكنت من التغلغل في قطاعات واسعة من المجتمع.. بالنحو الذي عبّرت عنه كتب حول الرأسمالية والحرية.. مثل كتاب “الطريق إلى العبودية” لفريدريش هايك.. و”الرأسمالية والحرية” لميلتون فريدمان.. ولو بشكل متموج بين الرأسمالية والحرية.. نصوص ذات رؤية تعتمد بقسوة على رأسمالية متشددة ترافقها حرية الاستغلال.. استناداً إلى وجوب أن تتمتع الاحتكارات بسلطة لا حد لها لسحق المنافسين المحتملين والضغط على عمالها.. وجوب أن تكون الشركات حرة في التواطؤ لاستغلال الزبائن المتعاملين معها.. كذلك أعاد أقطاب التكنولوجيا صياغة مفهوم اقتصاد معقد.. استعداداً للاستيلاء التام على الدولة في ظل هذا النوع من التنافر مع الواقع. أو ما معناه باختصار.. إبرام مواثيق دمّ مع السلطة تُبرز كيف يُكتب التاريخ الاقتصادي عن المستحيل الحتمي.. لعالم مشروط بشكل دائم بالنخب المتسلطة.. الأمر الذي يؤدى في نهاية المطاف إلى اختطاف المجتمع دفاعاً عن المصلحة الخاصة للنخبة ضد مصالح الجميع.
وطالما بلغنا فترة ما بعد الحداثة.. بدأنا نشاهد كيف تنتهي السرديات الكبرى.. كالإيديولوجيات التحررية واختفاء التاريخ، حتى وإن ظل من غير الممكن تغيير التاريخ إذا لم يكن موجودا على هذا النحو. فالرأسمالية تتعارض على نحو متزايد مع الديمقراطية، لتحل محلها وطنيات فاشية جديدة حصرية تحارب الآخرين.. ظاهرة ترامب تمثل الانغماس في السلطة وحب التسلط.. الفردية المتغطرسة والمجنونة.. وفي غياب خطاب تقدمي مهم.. سيهيمن أصحاب الثراء الفاحش على الشعوب.. لأنهم يعتقدون أن لا أحد سينافسهم أو يحاول زحزحتم عن السيطرة على قمة العالم.
تحضرني هنا شخصية المفوض سكالامبري.. في رواية “كل طريقة” للإيطالي “ليوناردو شاشيا”.. الذي تفاخر بقدرته على إخضاع البابا والأساقفة.. وربما الربّ نفسه.. من خلال زجهم في مركز شرطة قذر وأمرهم بخلع أربطة أحذيتهم وأحزمة بناطلهم.. حيث يخلص المفوض إلى قناعة أن أي شخص ينهار فوراً أمام أي متجبر يعامله كسارق دجاج. لهذا.. فإن نظرية داروين الاجتماعية التي تمارسها الفاشية الجديدة.. تجعل منا جميعا لصوص دجاج.. وتصنع من الضحايا مسؤولين عن الظلم وعدم المساواة التي يعانون منها.. نحن نعيش في وضع يعيد إلى الذاكرة ثلاثينات القرن الماضي.. عندما قرر اللوبي المالي الصناعي من خلال مختلف قوى الفاشية المحلية.. الوصول مباشرة إلى الحكم.. مما جعل هتلر يقول: “وراء الاقتصاد يجب أن تكون هناك أيضاً قوة.. لأن القوة وحدها هي التي تضمن الاقتصاد”.. تختلف الأساليب والهدف واحد!
أقول قولي هذا..