الرئيسيةالراي

رأي- حين تصطدم القيم بواقعٍ لا يشبه أحلامنا

* كتب/ عمران اشتيوي،

سيبقى الطفل في صدري يعاديكم. عبارة ليست تمردًا على العالم، بل محاولة لحماية ذلك الصوت الصغير الذي تشكّل فينا مع أيام أفلام الكرتون، حين كانت (هايدي) تركض في المروج، ومغامرات الفضاء تعدنا بعالم نظيف، واضح، ومنصف.

في تلك السنوات المبكرة، تعلّمنا أن الحياة قائمة على التسامح، وأن الخير ينتصر دائمًا، وأن العدالة مسألة وقت لا أكثر، فاستعجلنا العمر، وتمنينا الكِبر، ظنًا منا أن الواقع يشبه الشاشة.

كبرنا، واكتشفنا أن الحياة ليست فيلمًا مدبلجًا بنهاية سعيدة. وجدنا أن الواقع أكثر تعقيدًا، وأن القيم النبيلة لا تسود وحدها، بل تنافسها مبادئ قاسية لا تعترف إلا بالمصلحة. صُدمنا بمحاكم مزدحمة بقضايا قتل وسرقة، وبنزاعات على إرث وأرض، وبخلافات تُفكك العائلات بدل أن تجمعها. اكتشفنا أن كثيرين ممن نصادفهم يوميًا لا تحركهم الأخلاق بقدر ما تحركهم الحسابات.

في هذا المشهد، يصبح الاحتفاظ بالطفل الداخلي مقاومة. أن ترفض التطبيع مع القسوة، وأن تصر على أن الصدق ليس سذاجة، وأن الرحمة ليست ضعفًا. ندرك مع الوقت أن أعظم إنجاز يمكن أن يحققه الإنسان ليس المال ولا النفوذ، بل القدرة على الفوز بعدد قليل من الأصدقاء الحقيقيين، أولئك الذين تشعر بينهم بالأمان، وتفخر بوجودهم في حياتك.

السؤال هنا: هل تآكلت القيم، أم أننا سمحنا لها أن تتراجع؟ هل أخطأنا حين صدقنا الحكاية الجميلة، أم أن الخطأ في عالم قرر أن يسخر منها؟ سيبقى الطفل في صدري، ليس لأنه يجهل الواقع، بل لأنه يذكّرني، كل يوم، بأن العالم لا يستحق أن نكون أقل إنسانية.

هذا الطفل لا يطالب بالمستحيل، ولا يحلم بمدينة فاضلة، بل يريد فقط مساحة صغيرة للعدل، ووقتًا كافيًا للإصغاء، وقلوبًا لا تساوم على المبادئ عند أول اختبار. يريد عالمًا يحاسب الظلم، ويكافئ الصدق، ويمنح الإنسان قيمته بوصفه إنسانًا، لا رقمًا في معادلة الربح والخسارة. وربما، حين نحمي هذا الطفل، نمنح أنفسنا فرصة نجاة أخيرة. حينها فقط، قد نكتشف أن التمسك بالقيم ليس ضعفًا، بل شكل راقٍ من أشكال الشجاعة اليومية الصامتة. في زمن يزدحم بالاضطراب والقسوة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى