* كتب/ عبدالرحمن شلقم،
أخيراً قرأ الرئيس التونسي قيس سعيد بيانه الأول بعد أن وعد وتوعد لأسابيع. عانت البلاد التونسية من معاناة مركبة، لم تغب عنها الضائقة المالية والجائحة الكورونية التي اكتسحت البلاد والسيولة السياسية التي شلَّت حركة المجتمع. الدولة تشظت وتنافس على قيادتها أكثر من رأس، وارتفع السؤال الشعبي والنقابي، ما العمل؟ دستور 2014 وزع السلطات بشكل أربك العمل السياسي، فلا هو نظام رئاسي ولا برلماني ولا حتى مختلط بشكل واضح، وقال عنه الرئيس قيس سعيد، إنه دستور مفخخ. تكوين البرلمان أسهم في إعاقته فقد تشكل من قرابة عشرين مكوناً سياسياً به أحزاب ومستقلون. حركة النهضة ذات المرجعية السياسية الإسلامية حازت الأكثرية في البرلمان وتولى زعيمها راشد الغنوشي رئاسته. ارتفعت الأصوات التي حمّلته مسؤولية العثرات التي عاشها البلد.
الحوار الوطني كان الخيار الذي طرحته أكثر من جهة سياسية ونقابية لكنه لم يحصل على الإجماع، وظل البلد يتحمل كل يوم المزيد من ثقل المعاناة الاقتصادية والصحية. ارتفاع الإصابات بالـ «كورونا» وانهيار المنظومة الصحية، كان المطرقة التي ضربت كل الشرائح الاجتماعية، ورغم وصول شحنات المساعدة الدوائية من الكثير من الدول فإن الجائحة ظلت خارج السيطرة. الارتباك السياسي والإداري كان المسؤول الأول عن معاناة الناس. خمسة وزراء صحة خلال سنة ونصف، وتسعة وزراء يمارسون عملهم بالتكليف في حكومة لم تنل موافقة رئيس الجمهورية. صارت كل الأبواب مسدودة للخروج من حلقة المعاناة الثقيلة. منذ أكثر من شهرين قام الرئيس قيس سعيد بزيارة ثكنات الجيش ومقرات الحرس الوطني وأعلن أنه القائد الأعلى لكل من يحمل سلاحاً حكومياً، ورفع صوته بلسان عربي فصيح وقال: اليوم صبر وغداً أمر. يوم الأحد 25 يوليو (تموز) في ذكرى إعلان الجمهورية وصل (الأمر) وأعلن الرئيس بيانه الأول الذي وضع البلاد التونسية على مسار لا يخلو من التحديات التي يعلم الرئيس حجمها وطبيعتها. أمام قادة الجيش والحرس الوطني والجهاز الأمني أعلن قرارات التحول الكبير وهي، تجميد عمل مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن جميع أعضائه وتعهد بملاحقة المفسدين والتعامل بحزم مع الساعين للفتنة. أقال رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه. يتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه بنفسه. يتولى الرئيس منصب النائب العام وبرر ذلك بضرورة كشف كل ملفات الفساد. وأعلن أنه اتخذ هذه القرارات بموجب الفصل 80 من الدستور.
انفجر الاختلاف مباشرة بعد قرارات الرئيس في الشارع التونسي وبين الأحزاب وقادة الرأي العام وتعالت الأصوات المؤيدة والمعارضة لما قام به الرئيس وشهدت البلاد مسيرات شعبية في كل أنحاء البلاد مؤيدة للرئيس كما أيدته بعض الأحزاب. المعارض الأول والأكبر للقرارات كانت حركة النهضة التي وصفت القرارات الرئاسية بالانقلاب على الدستور. ما زالت الأحداث تتحرك بسرعة على كل المستويات وهناك الكثير من الأبواب التي لم تفتح في تونس بعد. الخوف من ردود الفعل العنيفة التي لا يعرف أحد مداها يخيم على أطياف المجتمع، وما زال البعض ينتظر نتائج الاجتماعات المتواصلة لقيادة الاتحاد التونسي للشغل وهو المكون النقابي الذي له دور سياسي واجتماعي محوري في البلاد. هل سيقف رد فعل حركة النهضة عند النقد الكلامي أم سيتحول رفضها إلى غضب يتحرك على الأرض مما ينذر بتطور لا يمكن التكهن بقوته ومداه. هل سنشهد مبادرة نوعية من المنظمات النقابية التونسية الأربع التي قامت بدور محوري في إنجاح الحوار الوطني، وهي الاتحاد التونسي للشغل، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، ونجحت في فتح الطريق للتفاهم السياسي والسلم الاجتماعي ونالت جائزة نوبل للسلام سنة 2015 تقديراً لمساهمة هذه المنظمات الحاسمة في بناء ديمقراطية تعددية بالبلاد.
الرئيس قيس سعيد اليوم في وضع لا يمكنه التراجع عنه خصوصاً وقد حصل على تأييد شعبي واسع ويدعمه الجيش وقوات الأمن، وحركة النهضة في موقف بالغ الحساسية فهي تدرك ما يعنيه رئيس الدولة بتوليه مهمة النائب العام ورفع الحصانة عن جميع أعضاء مجلس نواب الشعب ما يعني ملاحقة العديد من أعضائها قضائياً وإمكانية إخراجها نهائياً من المشهد السياسي.
لقد عدَّل الرئيس في تصريح لاحق قوله بتجميد مجلس نواب الشعب إلى تعليق عمله مدة شهر قابل للتمديد، فهل ينوي الرئيس الدعوة إلى انتخابات مبكرة، أم سيعمل على تعديل الدستور ويعيد النظام الرئاسي الذي حكم تونس في عهدي الرئيسين بورقيبة وبن علي؟ لا شك أن تونس بعد قرارات قيس سعيد غير تلك التي كانت قبلها وستشهد تغييرات كبيرة سترينا الأيام القادمة مداها وارتداداتها على المستويين الاجتماعي والسياسي. لقد أدرك قيس سعيد أن هناك خللاً كبيراً وخطيراً في آلة البلاد السياسية والإدارية، فرفع إحدى يديه ووضع على كفها أصابع الأخرى مشيراً إلى نقطة نظام لكنها مدرعة بقوة الجيش والأمن، ولم يستبعد ردة فعل مسلحة فقال في خطابه: «من يطلق رصاصة سيرد عليه الجيش والأمن بوابل من الرصاص». الحقيقة الخطيرة هي، أن تونس بما تعانيه لا تحتمل أي نسمة من العنف وكذلك دول الجوار خصوصاً ليبيا التي تشترك مع تونس في كل شيء وصدق الرئيس الحبيب بورقيبة عندما قال: «تونس وليبيا شعب واحد في بلدين». الأمل في مدنية وعقلانية الشعب التونسي الراسختين القادرتين على اجتراح الحلول للأزمات وتجاوز مستنقعات المحن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر على صحيفة الشرق الأوسط الإلكترونية، (الثلاثاء/ 27 يوليو 2021م)