الرئيسيةالراي

رأي- تاريخنا الدائري

* كتب/ عبدالله الكبير،

التجارب العملية تراكم المزيد من الخبرات لدى الإنسان وتعزز المهارات، وبهذه الخبرات والمهارات يعتدل السلوك نحو الأفضل، فتقل الأخطاء ويتقلص الزمن وتزيد الجودة، وتتسارع الاستجابة لأي تحدّ طارئ، خاصة إذا شملت الذاكرة مواقف وأحداثا مشابهة لهذا التحدي، ومع التجارب الذاتية، يعد الاطلاع على تجارب الآخرين رافدا مهما يطور ويهذب هذه الخبرات، وإذا لم يستفد الإنسان من تجاربه، فعاود الوقوع في نفس الأخطاء، ولم يختصر الوقت في أعمال يفترض أنه أتقنها بالتكرار، ولم تظهر علامات التحسن وزيادة الجودة على ما ينجزه، فلا قيمة لهذه الخبرة المتراكمة، لأن الإنسان في هذه الحالة يتحول إلى مايشبه ماكنة التصوير، نسخة واحدة يمكن أن تطبع منها عشرات ومئات النسخ دون أن تلاحظ أي فرق بين كل النسخ.

للتوضيح بالأمثلة. إذا لم يطور المهندس من خبراته بالتوسع في الاطلاع على تجارب الآخرين، ولم يقوّم عمله بشكل دوري، ويصوب أخطاءه، سيبقى أسيرا لخرائطه القديمة، وإذا حافظ المعلم على نفس المنهج، ولم ينتقل إلى مستوى أرفع، ويعمق مهاراته بكسب المزيد من الخبرات في طرق التدريس، فسوف يكرر عامه الأول في التدريس أعواما مديدة حتى يتحول إلى التقاعد.

في هذا الجانب، ما ينسحب على خبرات وتجارب الإنسان كفرد، ينسحب أيضا على المجتمعات البشرية، فتراكم الخبرات يقود المجتمعات إلى تقويم مسيرتها عبر التاريخ نحو التطور، بالاستفادة من تجارب الماضي، واستمرار تذكير الأجيال الجديدة بها، لأنها قد تنسى بالتقادم، عبر حصص محددة في المناهج الدراسية، ووسائل الإعلام، والمتاحف التاريخية، والاحتفالات الوطنية، لتصبح جزءا من الذاكرة الوطنية. وبذلك تضمن ليس فقط تكريسها في الذاكرة الجمعية، وإنما للبناء عليها وتطويرها إذا كانت تجربة مفيدة، أو لبناء جدار سميك عازل يحول دون تكرراها إذا اعتبرت من ضمن الكوارث.

لكن ثمة شعوبا لا تظهر أي قيمة لتجاربها السابقة، رغم فداحة الثمن التي قدمته فيها، مبدية استعدادها لاستعادتها والعودة إلى نقطة الصفر، ماضية بلا تردد في اقتفاء آثارها الماضية ليستمر دورانها في نفس الدائرة، فالتاريخ بالنسبة لها دائري لا يتقدم إلى الأمام مطلقا، نفس المراحل السابقة تعود بشكل أقوى مع اختلاف محدود في بعض التفاصيل، بحكم التطور العالمي وازدهار التجارة الدولية، فالشيخ الذي كان يرتدي الملابس المحلية التقليدية، ممتطيا فرسه ومحاطا بعبيده وأعوانه للقاء الوالي، وإظهار فرائض الخضوع والطاعة قبل مائة عام، يعود لممارسة نفس الطقوس بحذافيرها، ولكنه يلبس بدلة أوربية فاقعا لونها ويقود سيارة حديثة، والقبائل التي بايعت الزعيم قبل أن تسقطه ثورة دموية، لم ترق لها الحرية، وتفكك آليات الضبط والسيطرة باسم القبيلة، وسيطرة الفرد على مصيره، من دون تدخل القبيلة، فقامت بتنصيب زعيم جديد ورفعت له بيعتها، داعية إلى الخضوع له ولعائلته، باعتباره منقذ الوطن من المؤامرات التي تحاك ضده.

استعادة تجارب الماضي رغم كل ما سببته من مآس، يعني أن الشعوب لم تتحرر فكريا وثقافيا، وبقيت أسيرة لماضيها، تجتره في كل دورة تاريخية دونما تغيير، فالتحرر السياسي وحده ليس رافعة للتغيير، مالم يرافقه تحرر في الفكر والوعي، واليقظة الشعبية، لكل حركة أو محاولة لحقن الحاضر بسموم الماضي. المراحل والتجارب في حياة الشعوب غالبا مكلفة ومريرة، خاصة تجارب الاستعمار والاستبداد، ولكن التكلفة تتضاعف مع طول زمن إقامة الاستعمار أو طول حقبة الاستبداد، لأن أجيالا ستنشأ وتترعرع في بيئة فاسدة قوامها الخوف والذل والنفاق، ولا تعرف أنماطا أخرى للحياة، ولن يكون من السهل التخلص من هذه الموبقات عقب التحرر، فكل البنى النفسية والفكرية والثقافية تدفع باتجاه استعادة النمط المألوف السابق، لتبقى الشعوب مقيدة في تاريخها الدائري.

للكاتب أيضا: 

رأي- حل المشكلة الأساسية أولا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى