الرئيسيةالرايثقافة

رأي- بين الورق والشاشة

* كتب/ عبدالوهاب الحداد،

في زمن التنازع بين الورق والشاشة، لا تبدو المعركة اليوم بين “الكتاب الورقي” و”المحتوى الرقمي” بقدر ما هي بين الجودة والرداءة، فمن جهة، تتسلل إلى رفوف المكتبات كتب رديئة المضمون، هشة اللغة، مشتتة في أفكارها ومعلوماتها، تتغطى بغلاف جذاب، وعنوان يخفي عوارها، من جهة أخرى، يطفو على سطح منصات التواصل محتوى رقمي هابط، لا يُراهن على المعنى بل على الإبهار، ورغم أن الوسيطين مختلفان -الورقة والشاشة- فإن ما يجمع بينهما هو شخصية صانعهما، ذلك الذي يُتقن “صناعة الظهور” أكثر من “صناعة الفكر”.

ما يجمع مؤلف الكتاب الرديء ومنتج المحتوى الهابط هو ارتفاع هرمونات الثقة بالنفس، مقابل ضمور في عضلات الضمير، كلاهما يقدم نفسه بوصفه “صاحب رسالة”، لكنه في الواقع يقتات على عواطف المتلقي السريعة، ويسوق لمنتجه بكلمات منمقة، وعبارات محشوة بالشعارات، أو صور جذابة لا علاقة لها بجوهر المنتوج.

في الكتب الرديئة، نجد صفحات مكتظة بتكرار الأفكار، بتجميع أقوال مأثورة أو خواطر مراهقة مغلفة بلغة شعرية مستهلكة، أو معلومات تاريخية مصدرها “هدرزة”، أما في المحتوى الرقمي الهابط، فالأمر لا يختلف كثيرًا، حيث مقاطع قصيرة، مضحكة أو مثيرة للشفقة، تخاطب الغرائز أو الفراغ، وكلاهما يراهن على الانتشار، لا على القيمة.

لطالما نُظر إلى الكتاب الورقي بوصفه وسيلة تثقيف وتنوير، غير أن ذلك الانطباع بدأ يتآكل حين تحوّلت بعض دور النشر إلى دكاكين، فصار بالإمكان أن تحول منشورات وصور وسائل التواصل إلى كتاب مطبوع، تباع نسخه ويوقع في معارض الكتب، ويُقدَّم صاحبه على أنه “كاتب”، وهكذا بات الورق، الذي كان رمزًا للرقي الثقافي ومصدرًا للمعلومة الموثقة، يُستغل لتجميل الرداءة وتزييف التاريخ، تمامًا كما تفعل المؤثرات البصرية في فيديو رقمي تافه.

المفارقة أن أصحاب الكتب الرديئة وصنّاع المحتوى الهابط هم غالبًا من يتصدرون المشهد الإعلامي والثقافي، لا لجودة ما يقدمونه، بل لقدرتهم على بناء قاعدة جماهيرية تُشبههم، فقد صار “عدد المتابعين” معيارًا يسبق “عمق الفكرة”، وبات “الترند” أهم من “الرسالة”.

وهذا ما يُظهر تشابهًا آخر في شخصية هؤلاء: فهم لا يكتبون أو يُنتجون بدافع المعرفة أو المسؤولية، بل بدافع الترويج للذات، وجني الشهرة، وربما المال، وربما الفرق الوحيد -إن وُجد- أن الكتاب الرديء يُكلّف القارئ مالًا ووقتًا ورفًا يشغله، بينما المحتوى الرقمي الهابط لا يتطلب أكثر من نقرة وإيماءة عابرة، لكن الضرر في الحالتين يتجاوز الفرد، ليُسهم في تشكيل ذائقة عامة ترى في الركاكة أمرًا معتادًا، وفي الرداءة مادة قابلة للاستهلاك، بل والتصفيق والتكريم.

وقد يكون في كل ما قيل أعلاه، مبالغة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى