* كتب/ قيس خالد،
في مثل هذا اليوم لو أنني مازلت أتذكر التاريخ المفصل وعلى كل حال في مثل هذا الشهر، كنت نازحًا في مدينة ترهونة بسبب الحرب الأهلية الأخيرة التي وقعت في طرابلس، كان الوقت غروب الشمس المعتاد، في كل يوم تغرب وتشرق الشمس إذا لم يغرب أو يشرق شيء آخر، وكنت في طريقي إلى مقهى صغير يقع في جنوب مركز المدينة، المقاهي بيوت المشردين لذلك أجمل المقاهي تلك التي تقع في أطراف المدن…
بين المقهى وبين تقاطع الطريق مسافة 150 مترًا تقريبًا، كان كل شيء في مكانه لذلك كانت المسافات تقاس بالأمتار، ثم بعد ذلك حدث خطأ في نظام القياس وأصبح الموت أقرب مما كان، ووصلت فرقة إعدام مجنونة تقود ما يناهز 20 أسيرًا ألقتهم على الأرض من فوق سيارتين نوع “تيوتا تندرا” وباشرت الفرقة المكونة من 7 عناصر مسلحة في تصفيتهم رميًا بالرصاص في تقاطع الطريق، كان الناس المارة قريبين من الحدث، وحاصرتهم حالة الهلع والصدمة والرعب، في المقاهي والمحلات التجارية وفي سياراتهم…
في مثل هذا اليوم لو أنني مازلت أتذكر التاريخ المفصل والموت المفصل وغروب الشمس المفصل، شاهدت 20 رجلًا يموتون رميًا بالرصاص، وسمعت صرخاتهم وأنينهم وغرغرة اختناقهم بالدم، بل سمعت صوت ارتطام جثثهم بالأرض، الموت مقتولًا مثل الرقصة يصدر عنه صوت ارتطام الجسد بالأرض، وإذا مات الراقص تستمر الموسيقى لأن لا أحد يتذكر التاريخ المفصل..
هل يموت الإنسان حين يرى الموت في أعين الآخرين؟ مفترض نعم لكن ذلك يعتمد على مقدار موهبتك في تقمص الأدوار، ولذلك كان المسرح أستاذ الشعوب كما يقال، أنا لم أمت في ذلك المساء البشع مازلت حيًا مثل قرد همجي، لكنني بعدها لم أعد إلى حياتي الداخلية لم أعد أعيش داخل نفسي بالأفكار القديمة، ولم أعد أحترم شراكة الناس في تقدير القضايا المتصلة بالموت، لم أعد أحترم الفكرة العامة عن الحياة الجماعية التي تسمى سياسة، لم أعد أحترم القيم التي طالما كنت مؤمنًا بها، هكذا يصبح الإنسان موهوبًا ويتعلم من أستاذه المسرح، وهكذا يحدث الموت بدون رصاص، وهكذا يتذكر الإنسان التاريخ المفصل ويحمل في قلبه أغنية وتبغا وذكريات مثل الجيفة عن غروب الشمس…