
* كتب/ يوسف أبوراوي،
تخيل أننا كبشر لا نمتلك أعصابا تخبرنا بأن هذه النار محرقة، أو أن هذا الحيوان خطر، أو أن هذا الطعام فاسد، ما الذي سيحدث برأيك؟
نعم إنها كارثة، ربما تؤدي إلى أضرار جسيمة أو حتى الموت، ببساطة لأنه يمكن لهذه الأخطار أن تهدمنا كنظام.
هذا النظام سواء كان جسدك، أو مؤسستك، أو دولتك فإنه لا يستمر في الحياة إلا بشروط معينة يمكن تلخيصها في هذه المعادلة الذهبية:
الاستدامة = بنية مترابطة + تبادل معلومات + تصحيح أخطاء وانحرافات.
يعدد علماء الأنظمة مكونات أي نظام كالتالي:
- المدخلات (Input): الموارد، الأفكار، الطاقة.
- المُعالجة (Process):آليات تحويل المدخلات إلى مخرجات.
- المُخرجات (Output):القرارات، المنتجات، السياسات.
- التغذية الراجعة (Feedback): القلب النابض الذي يرصد أثر المخرجات… ويعيد ضبط النظام.
ولسائل أن يسأل ما هذا العنصر الرابع الذي يبدو غريبا على باقي المكونات؟
سنقول له إذا كانت العناصر الثلاثة الأولى هي شروط عمل النظام، فإن العنصر الرابع هو شرط استدامته، وغيابه يعني الموت البطيء والحتمي لأي نظام من أي نوع، تخيل شركة لا تستمع إلى شكوى عملائها فتنهار، أو تخيل جسما لا يشعر بالألم فيتعفن !!
يتجاوز دور التغذية الراجعة رصد الثغرات والأخطاء، بل هي تجبر النظام على التكيف والتجدد، تماما كما ترصد مناعة الجسم أسباب الأمراض، ثم تعمل على القضاء عليها وتنظيف الجسم من آثارها.
إن الأنظمة السياسية هي أكبر ضحايا غياب التغذية الراجعة، فهي عندما تسحق صوت المعارضة الواعية التي تشخص الأخطاء وترصد البدائل، يتحول النظام إلى دائرة مغلقة، غرفة للصدى تكرر أوهام النجاح والإنجاز، وتعيد إنتاج الأزمات فكرا وقيادة وسياسة، كل ذلك يؤدي إلى موت السياسي (Political Necrosis) تدريجي، حيث تتراكم العيوب تحت سطح الاستقرار الوهمي لتتحول الدولة الى جثة سياسية تمشي على قدمين حتى موعد الانفجار الكبير.
لابد للأنظمة (والدولة أكبرها وأكثرها تعقيدا) من تجديد على مستوى الأفكار، وذلك بالسماح للمعارضة بالتعبير عن آرائها، وتحويل الرأي المختلف الى مصل فكري ضد جمود الافكار، وتجديد على مستوى الأفراد والقيادات وعدم التشبث بشخصيات متآكلة.
إن أقوى الأنظمة ليست التي تتفنن في سحق معارضيها، بل من تحسن التعامل معهم وتدمجهم في دورات التغذية الراجعة، والتجديد الذي يمنحها مزيدا من القوة والمرونة والاستدامة.
إن الامبراطوريات الكبرى عبر التاريخ انهارت عندما توقفت عن التجديد، كما أن الدول الكبرى اليوم تتفنن في بناء منصات الرصد والتقييم والتقويم داخل أنظمتها، علينا تغيير فكرتنا عن النقد والمعارضة؛ واعتبارها تنفسا صناعيا يطيل عمر الأنظمة والمؤسسات والدول، لا خيانة يجب إسكاتها، فهل نفعل؟