الرئيسيةالراي

رأي- الغربلة

* كتب/ أنس أبوشعالة،

أربعة عشر عاماً و بضعة شهور، واجهت فيها ليبيا كافة أنواع الزلازل والبراكين، انتفاضة وثورة وهدم وعدم، صراع وصرعات، اقتتال هنا وهناك تحت شتى الشعارات والمسببات، إرهاب واستقطاب وانجذاب وانتهاك لأدنى حدود السيادة، سياسياً ومالياً وعسكرياً وأمنياً.

تناوب على ليبيا ثُلة من المبعوثين، تبادلوا أدوارهم وأهواءهم وتجاربهم العديدة والمكررة والمُعادة بعد الإعادة، ولا زال البعض ينتظر اختلافاً في النتيجة، و لعل الاختلاف الوحيد يكمن في الوجوه والشخوص، أما الدولة فلا زالت هشيماً تذروه الرياح القبلية والجهوية والمصلحية والسياسية والإقليمية والدولية.

أجود أنواع الأفيون السياسي سُمي بالانتخابات التي لن تحصل، وإن حصلت فإنها ستكون شرارة الاحتراب والاقتتال، فلا أحد يقبل الآخر ولا يحب الآخر ولا يرضى بالآخر ولا يثق بالآخر، وليس في قاموسنا معنىً للمشاركة، بل في موروثنا قول مأثور (رومني يا نكسر قرنك) وهو ما يمثل مفهوم المُغالبة لا المُشاركة.

وبعد كل هذه السنين، التي انشغلت فيها أمم الأرض بقضايا الصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا وأوكرانيا وفلسطين، وصِرنا على هامش الاهتمامات بفضل سهولة السيطرة والإدارة والتدوير والتدويل لأزمتنا دون حول ولا قوة منا، ظهرت فكرة براغماتية أراها تتبلور يوماً بعد يوم، قد تروق للعم سام ومن تبعه بإحسان، وهي فكرة الغربلة، وشطر السلطة بدلاً من شطر الدولة.

الشطر الأول صار واضحاً بارزاً مسيطراً متمكناً شئنا أم أبينا، مما دعا كافة الأطراف الإقليمية والدولية للاعتراف به شكلاً و مضموناً، ولم يعد ثمة تقسيم وتصنيف لما يسمى بالدول الصديقة والحليفة، أو الدول المعادية والمناوئة، فالكل بلا استثناء صار يعترف بقيادة “القوات المسلحة العربية الليبية”، سمها قوة أمر واقع، أو سمه ولي أمر مُتغلب، أو سمه قائداً للجيش، سمه قديساً أو سمه شيطاناً، الأمر سياسياً سيّان، فهو المهيمن المسيطر على الجغرافيا التي يحكمها دون شريك من دون الله.

الشطر الثاني، يكمن في الغرب الليبي وتحديداً في العاصمة طرابلس، التي تشهد غلياناً ظاهره عسكري أمني ولكن حقيقته سياسية بامتياز، فمن يتقلد مقاليد السلطة يعي جيداً أن السيطرة المُبرمة والهيمنة المُطلقة هما السبيل الوحيد لنيل الشراكة السلطوية لليبيا مع الشطر الأول المذكور آنفاً.

بعد انتهاء أعمال الغربلة وبيان لمن الغلبة والسلطة والسطوة، سيكون للعم سام قول فصل ينتهي إلى تدشين نموذج جديد للسلطة في ليبيا، بخلق شكل جديد لأسلوب الحكم فيها، قِسمة السلطان بين حاكم الشرق وحاكم الغرب، وتقسيم النفوذ وموارد الثروة ومصارف النقود، ومزج الشطرين كون ذلك أخف الضررين، وتدخل ليبيا في السادسة والعشرين بعد الألفي عام من ميلاد المسيح في أول عام من أعوام السلطة التشاركية بين حكام الشرق وحكام الغرب، و تنصهر دون هذه السلطة الجديدة سائر السلطات الأخرى.

هذه ليست مقالة فكرية ولا رؤية سياسية، وإنما نظرة استشرافية واقعية لما أراه بعين فاحصة وعقل متجرد عن الأهواء، فالعالم يرى في الشرق الليبي خاضعا لسلطة واحدة قادرة ومسيطرة ومتحكمة، كيف ذاك؟ لا يهم العالم الإجابة، بالطيبة بخطين كتيبة، بالماء والثلج والبرد أم بالحديد والنار، العالم لا يهتم، فقط يسأل قُل لي من أنت، هل أنت المتحكم الحاكم المهيمن المسيطر؟ أم أنك الحالم المتأمل الشارد المرتعش؟

العالم الآن يبحث عن شريك نظير في الغرب الليبي، يسيطر ويتحكم ويهيمن، وقادر على إكمال الصفقة التي يرى العالم أنها الأسهل والأقرب للواقع، ومن ثم نستطيع فهم أسباب الغليان في العاصمة طرابلس، وأعتقد جازماً أن الدول الفاعلة في ليبيا تدفع وتحرض وتشجع نحو هيمنة طرف واحد على مقاليد الحكم في العاصمة، فهل سيحصل ذلك؟ وهل سنرى حاكماً واحداً للغرب الليبي يناظر الحاكم في الشرق؟ أم أن استمرار الغليان قد تنصهر معه كل المعطيات و يحصل انتحار جماعي لكل القوى الفاعلة في الغرب الليبي، بحيث يصير الغرب الليبي طائعاً مسلماً مستسلماً بعد خوار قواه بفعل تصارع القُوى دون قدرة قوة واحدة على الحسم؟

هذا ما سنشاهده ونشهده ونراه في شهر سبتمبر، الذي طالما كان شاهداً على أحداث مفصلية في تاريخ الدولة الليبية، إن كان في العمر من بقية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى