اجتماعياخبارالرئيسية

رأي- الطيبة… قبل أن أعرف ثمنها

* كتب/ عمران اشتيوي،

هناك لحظات في طفولتنا نتمنى لو بقيت مفاهيمها كما كانت: صافية، بسيطة، لا تعرف تعقيدات الحياة ولا حسابات الناس. إحدى تلك اللحظات تعود بي إلى الصف الرابع الابتدائي، حين كنت أرافق والدي –رحمه الله– في رحلاته الطويلة بشاحنته القديمة، التي كانت تجوب البلاد من شرقها إلى غربها وجنوبها.

ذات مساء عاد والدي من الميناء محمّلاً بأطنان من أكياس الشعير المتجهة إلى منطقة النوفلية. وفي الصباح انطلقنا ببطء مألوف لمن يعرف هذا النوع من الشاحنات الثقيلة. وبعد تجاوزنا منطقة أبوقرين بقليل، بدأت الحمولة تميل فجأة، ثم تساقطت أكياس الشعير واحداً تلو الآخر على الطريق الساحلي. توقّف والدي بسرعة ونزلنا نجمع ما يمكن إنقاذه، لكن حرارة الصيف وجهد المحاولة جعلا الأمر شاقاً ومستحيلاً.

وبينما نحن غارقون في محاولاتنا، توقفت بجانبنا سيارة “بيجو 504”. ترجل منها رجل ذو بشرة سمراء، تحدث مع والدي ثم غادر. لم أتوقع أنه سيعود، لكنه عاد ومعه أربعة رجال يحملون مكانس وأكياساً وأدوات بسيطة. بدأوا بجمع حبات الشعير المتناثرة دون تردد، يعملون بصمت تحت الشمس الحارقة، حتى ملأوا ما استطاعوا من أكياس ووضعوها فوق الشاحنة. استغرق الأمر أكثر من ساعتين، وأنا أتابعهم بإعجاب طفل لم يعرف بعد أن العالم أوسع من طيبة اللحظة.

بعد أن أنهوا عملهم واستأنفنا الطريق نحو النوفلية، التفتُّ إلى والدي وقلت ببراءة:
الناس اللي ساعدونا طيبين وتعبوا معانا.”

ابتسم والدي وقال بهدوء:
هما ساعدونا… لكن خذوا فلوس مقابل عملهم.”

لم أفهم وقتها ما الذي يعنيه ذلك. لم أفكر أن الجهد يمكن أن يكون سلعة، وأن المساعدة قد تتحول إلى خدمة بأجر. بالنسبة لي كانت الطيبة هي الدافع، وكانت المساندة فعلاً إنسانياً خالصاً.

كبرت لاحقاً، وفهمت أن الحياة ليست دائماً كما نظنها في طفولتنا. لكن شيئاً في داخلي ظل يؤمن بأن بعض المواقف تستحق أن تبقى بلا مقابل… فقط لتذكرنا بأن الخير كان يوماً أبسط وأصدق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى