
* كتب/ محمد اللديد،
عندما تُذكر الهجرات الكبرى في التاريخ الحديث، تتجه الأذهان إلى مأساة الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، أو نزوح ملايين المسلمين من الهند إلى باكستان عقب التقسيم، أو نكبة الفلسطينية عام 1948 وما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2023، لكن ما يغيب عن الذاكرة العالمية هو أن السودان، في حربه الأخيرة، شهد أكبر عملية تهجير ممنهجة لشعبٍ بأكمله، قُدِّر عدد من شُرّدوا خلالها بما يفوق سبعة عشر مليون سوداني، في واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية تجاهلاً في التاريخ المعاصر.
السودان المعروف بلقب “سلة غذاء إفريقيا”، لم تتأثر موارده الزراعية فحسب، بل تأثر أيضاً استقراره الاقتصادي والاجتماعي نتيجة النزاعات المستمرة.
النزوح الجماعي للناس أدى إلى توقف آلاف المزارع، وتراجع الإنتاج الغذائي، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على الأمن الغذائي في المنطقة بأكملها، بما في ذلك الدول المجاورة مثل ليبيا، التي شهدت موجات نزوح واستقبال للاجئين السودانيين في هذه الحرب، ما أضاف ضغوطًا على البنية التحتية والخدمات الأساسية، وزاد من التحديات الإنسانية في السودان ودول النزوح.
منذ اندلاع النزاعات المسلحة في السودان، تحوّلت حياة الملايين إلى رحلة تيهٍ مفتوحة بلا نهاية. أُجبر الناس على ترك منازلهم، أراضيهم، ذكرياتهم، وكل ما يشكّل معنى الاستقرار، هربًا من الحرب والجوع. تفرّق السودانيون بين مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، وبين نازحين داخل حدود وطنٍ بات غريبًا عليهم. خلف كل رقمٍ من تلك الإحصاءات الباردة، قصة وجعٍ لأسرةٍ تمزّقت، وطفلٍ حُرم التعليم، وأمٍ فقدت أبناءها على طرق النزوح الطويلة.
رغم حجم الكارثة، لم تحظَ مأساة السودان بالاهتمام الدولي الذي نالته أزمات مشابهة في مناطق أخرى من العالم. فوسائل الإعلام العالمية نادرًا ما تضع السودان في صدارة نشراتها، والمنظمات الإنسانية تعمل بإمكانات محدودة وسط تعقيدات أمنية وسياسية هائلة. ومع كل يومٍ يمر، تتسع رقعة النزوح، ويزداد العبء على من تبقّى من السودانيين في الداخل، وموجات النزوح إلى ليبيا تزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، اقتصاديًا وإنسانيًا على حد سواء.
إن ما يجري في السودان ليس مجرد صراعٍ داخلي، بل جرحٌ إنساني مفتوح في جسد إفريقيا والعالم. فكل مجتمعٍ يشيح بوجهه عن معاناة هذا الشعب، يشارك –بصمته– في تعميق المأساة.
لقد آن الأوان أن يُعاد السودان إلى الذاكرة الإنسانية، لا كعنوانٍ للأزمات، بل كشعبٍ يستحق الحياة، والسلام، والكرامة، ودوره الحيوي في الأمن الغذائي الإقليمي لا يقل أهمية عن إنقاذ أبنائه من النزوح والتهجير.



