الرئيسيةالراي

رأي- التسول وصناعة الفقر: تجارة رابحة على حساب الحاجة والمجتمع

* كتب/ عمر السويحلي،

أصبح التسول في مجتمعنا الليبي اليوم صناعة رابحة لها أساليبها وطرقها، تقوم على التلاعب بالعواطف واستغلال رغبة الناس في فعل الخير والتقرب إلى الله. فبينما يوجد فقراء حقيقيون يستحقون المساعدة، هناك محترفو تسول حولوه إلى حرفة مدرة للمال، مستغلين مشاعر الإحسان لدى الناس، دون أدنى حياء من الكذب والتمثيل.

تطور التسول من سلوك فردي، وصار نشاطًا منظَّمًا تديره شبكات تعمل على استغلال الأطفال والنساء وكبار السن، وتتخذ من الشوارع، والأسواق، وبوابات المساجد، والإشارات الضوئية أماكن لممارسة هذا الخداع العلني.

ومن المشاهد المتكررة أن تقف سيارات فاخرة أمام المساجد بعد صلاة الجمعة، لتقلَّ بعض محترفي التسول الذين جمعوا أموالًا طائلة من المصلين. دخلهم اليومي قد يتجاوز رواتب أواسط الموظفين، وصل الأمر إلى الافتراء والكذب على الدولة من أجل الحصول على الإعانات، مما يحرم المستحقين الحقيقيين من الدعم. حتى أن بعض المتسولين يرفضون فرص العمل لأن دخلهم من التسول أعلى، كما حدث مع فتاة طُرحت عليها وظيفة براتب شهري، لكنها رفضت لأن دخلها اليومي من التسول أكبر بكثير!

من الظواهر الخطيرة أيضًا، انتشار نساء أجنبيات من دول إفريقية وعربية، يقودهن أفراد منظمون، ويدَّعين الحاجة والفقر، بينما كثير منهن يمتهن التسول احترافًا. هؤلاء النسوة لا يترددن في الكذب والتمثيل، حتى أنهن يغيرن قصصهن وأسلوب استجدائهن وفقًا للموقف.

وتزداد المشكلة سوءًا عندما يستغلون الأطفال، فيظهرونهم بملابس رثة، أو يحملونهم نائمين في الطرقات، مستغلين التعاطف الإنساني الطبيعي مع الطفولة لاستدرار العطف والمال، في جريمة أخلاقية لا تختلف عن جريمة الاتجار بالبشر.

في كثير من المدن، أصبح المتسولون يحاصرون الناس في كل مكان، فتجدهم عند إشارات المرور ينقرون نوافذ السيارات، وأمام المساجد يعترضون طريق المصلين، بل وأحيانًا يدخلون البيوت طرقًا على الأبواب، وكأنهم يمارسون “حقًا مشروعًا”.

الأمر لا يقف عند حد الإزعاج، بل يتحول إلى تهديد اقتصادي واجتماعي، حيث يُسهم في إضعاف قيم العمل، ونشر ثقافة الاتكال والكسل، وتحويل المجتمع إلى بيئة استغلالية يفضل فيها البعض التسول على البحث عن مصدر رزق مشروع.

حذَّر النبي صلى الله عليـه وسـلم من التسول بلا حاجة، وجعله سُحتًا يأكله صاحبه بغير حق، فقال:

“ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحمٍ.” (متفق عليه)

فالإسلام حدد الحالات التي تجوز فيها المسألة، وهي:

  1. من تحمل دَينًا بسبب إصلاح بين الناس، فيجوز له أن يسأل حتى يسد دينه.
  2. من أصابته مصيبة اجتاحت ماله بالكامل، فيجوز له أن يسأل حتى يجد قوامًا من العيش.
  3. من أصابته فاقة شديدة، بشرط أن يشهد له ثلاثة من أهل المعرفة بأنه فقير محتاج.

أما غير ذلك، فالتسول حرام شرعًا، لأنه يقوم على الاحتيال واستغلال تعاطف الناس بالكذب.

 

كما يصف القرآن الكريم الفقراء الحقيقيين بأنهم لا يسألون الناس إلحافًا، أي أنهم يستترون بفقرهم ولا يظهرون الحاجة إلا عند الضرورة:

“لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” (البقرة: 273).

كيف نواجه هذه الظاهرة؟

  1. سنّ قوانين صارمة لمكافحة التسول المنظم، ومعاقبة المتورطين في استغلال الأطفال والنساء.
  2. تعزيز ثقافة العمل، عبر تقديم برامج تدريبية للفقراء لمساعدتهم على كسب رزقهم بكرامة.
  3. توجيه التبرعات لمؤسسات موثوقة، بدلاً من منح المال مباشرة للمتسولين.
  4. نشر الوعي الديني والمجتمعي، حول خطورة دعم التسول العشوائي، وتشجيع الناس على مساعدة الفقراء بطرق مستدامة.

إن التسول لم يعد مجرد سلوك فردي محدود، بل ظاهرة خطيرة تهدد المجتمع، وتعزز ثقافة الكسل والاحتيال. وإذا استمر في إهمال معالجتها، فسنجد أنفسنا أمام مجتمع يفضّل التسول على العمل، ويستغل الطيبة والإحسان لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

إن مساعدة الفقراء واجب شرعي وإنساني، لكن يجب أن تكون بطريقة تحفظ كرامتهم، وتضمن وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين، لا إلى محترفي التسول والنصب.

و في حضوري ذات مرة أوصى الشيخ الشعراوي الحاضرين  بأن لا يعطوا مالا لهؤلاء الممثلين النصابين محترفي التسول، وهم بواقع صنعتهم هذه يسرقون أموال الفقراء ومستحقي الزكاة، ونصح الشيخ الشعراوي من أراد أن يُنفق من زكاته وصدقاته أن يبدأ بذوي القربى من أهل الزكاة أولاً، ولقد عملت بهذه الفتوى منذ أن سمعتها منه.

 

ومما سبق يتبين أن التسول أصبح  ظاهرة نفسية معقدة ساهمت فيها عوامل اجتماعية، واقتصادية، ونفسية.

فهؤلاء المتسولين  يصطنعون أنهم يعانون من الفقر المدقع، و يجعلون من ذلك أسلوب حياة مريحة بدون مشقة أو تعب ينتج عنها هذا الكسب السهل، مما يؤدي إلى تعزيز الكسل وفقدان الدافع للعمل.

إن التسول المنظم جريمة  تُرسّخ ثقافة الاستغلال والاحتيال، حيث يستغل بعض الأفراد تعاطف الناس من خلال التلاعب بالمشاعر والتمثيل، مما يؤدي إلى تبلّد حسّ المساعدة لدى المجتمع بمرور الوقت.

إن الأطفال الذين ينشؤون في بيئة التسول يتعرضون لأضرار نفسية خطيرة، مثل انعدام الثقة بالنفس، والشعور بالدونية، والاعتياد على الخداع، مما قد يدفعهم مستقبلاً إلى الانحراف أو الجريمة.

وأعتقد أن الحل الأمثل لمواجهة التسول هو الحزم في مواجهته، والضرب بيد من حديد على أيدي  المتسولين الأجانب وإعادتهم إلي بلادهم، ومراقبة الحدود، ومنع الهجرة غير النظامية، وهذا منال يُصعب تحقيقه في ظل الانقسامات الحالية، فاستفحال  ظاهرة التسول هو أحد المظاهر الواضحة لفشل الدولة الليبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى