
* كتب/ خالد الجربوعي،
هناك من يظن أن الانفتاح السعودي في السنوات الأخيرة والذي بدأ مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض في سنة 2017.. أن هذا الانفتاح الواسع كان رغبة في إرضاء ترامب لا غير، لكن الأمر أعتقد أنه على غير ذلك، بل وأكبر من ذلك بكثير، وهو ليس وليد تلك اللحظة ولا مشروع ولي العهد محمد بن سلمان لوحده..
بل هو نهاية لطريق طويل عملت خلاله السعودية على استغلال الدين والتيارات الإسلامية من أجل محاربة التيار القومي العربي، منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبدء مرحلة استقلال الدول العربية.. فأرادت أن تجد طريقة للوقوف ضد دعاة القومية، خاصة مع عبد الناصر، فعملت على دعم كل الجماعات الدينية حتى تلك التي تختلف معها، بداية من الإخوان المسلمين من أجل محاربة ذلك التيار، والذي يمكن القول أنه بدأ في السقوط مع نهاية عبد الناصر، أو تحديدا بعد هزيمة 67، وكل ما جاء بعده كانت مجرد محاولات وشعارات رفعها بعض قادة الدول التي ادعت القومية من أجل كسب الشارع العربي القومي، الباحث عن بديل لعبد الناصر.. لكن كل أولئك لم ينجحوا، إلا أنهم بقوا غصة في حلق المشروع السعودي، ومعها مشروع الدولة القطرية الذي تبنته الكثير من الدول العربية الأخرى، حتى كانت نهاية كل هؤلاء القوميين.
مع مرحلة ما عرف بثورات الربيع العربي 2011، وجدت السعودية أن خصمها الأساسي الأول قد انتهى وذهب إلى غير رجعة، على الأقل في المدى المنظور.. لتبدأ مرحلة فك الارتباط مع الجماعات الدينية بمختلف تياراتها حتى تلك التي بنت عليها مجدها وقوتها وسطوتها الداخلية والخارجية، ومن هنا بدأت المرحلة الجديدة في تاريخها للخروج من عباءة تلك التيارات، والبحث عن طريق جديدة قد تؤدي بها في نهاية المطاف إلى الهاوية..
لكن الأمر في حقيقته كان مسارا لطريق طويل بدأ منذ فترة تسعينيات القرن الماضي، خاصة مع تطور الإعلام وبروز القنوات الفضائية، فكانت السعودية أو بعض من أمرائها ولو بشكل خاص، لكن برعاية السلطات الحاكمة ولو عن بعد.. حيث كان السعوديون أول من بادر بافتتاح القنوات الفضائية العربية الخاصة من خارج بلدانهم، والتي كانت منفتحة بشكل لا مكان له في البلاد في تلك الأيام، إضافة إلى إنشاء الشركات الفنية لرعاية الفنانين واستجلابهم، بل والسيطرة عليهم واحتكارهم لشركاتهم دون بقية الدول العربية، حتى تلك التي سبقتهم فنيا، فكانت شركة روتانا وكانت قنوات “أي آر تي” و”إم بي سي”، والتي سيطرت جميعها في تلك الفترة على خريطة الإعلام العربي بكل أنواعه، فنيا وسياسيا ورياضيا.. وأصبحت القبلة والوجهة لكل باحث عن المشاركة والعمل عبرها، والباحث عن المشاهدة والمتابعة من خلالها، دون بقية القنوات حتى المحلية منها.. لتكون تلك البداية للمتغيرات في السياسة السعودية وتعاملها مع ما كان من المحرمات يوما ولو عن بعد.. حيث كانت كل تلك الشركات والقنوات تذيع وتخرج من خارج المملكة، ولو بقيادة وأموال سعودية لا شريك لها، واستمر الأمر لفترة من الزمان حتى خرجت قنوات أخرى لدول لا تبعد عنها كثيرا، وشريكتها في المنطقة والسياسة والجوار، وإن كانت صغيرة في الحجم والمسار قبل ذلك، لتتغلب عليها أحيانا وتشاركها أحيانا أخرى، بل تتقدم عليها في بعض المجالات أحيانا أخرى، خاصة عمرانيا وفنيا وسياسيا ورياضيا وغيرها.. وهنا كان لابد من خطوات سريعة متسارعة لا تتحمل الانتظار، للحاق بتلك الدول ومنجزاتها والعمل على أخذ قصب السبق منها، ليكون وجود بن سلمان الابن على رأس الحكم هو المنطلق دون أي حسابات أو انتظار، لتبدأ الرحلة العامة والحاسمة بعد تصفية كل الخصوم في كل المجالات، من رجال مال وأمراء ورجال دين وغيرهم، وذلك عندما حدثت عملية الاعتقالات ومنع السفر وأخذ الأموال من أصحابها في تلك الفترة، ومن هنا انطلق قطار التغيير بسرعة كبيرة لقطع كل المسافات بأقل زمن ووقت، عكس ما كان يحدث قبل ذلك عندما كانت الأمور تسير خطوة بخطوة نحو التغيير.. وإن كان كل ما حدث سابقا جهز لهذا الأمر ليكون مقبولا ويجد الأرضية المناسبة دون تردد أو ممانعة، خاصة شعبيا، إلا نادرا، وهذا ما حدث.
وكان هذا مسار التغيير السعودي، الذي قلب كل المعايير التي بنت عليها السعودية نفسها طيلة عقود من الزمن باختصار..