
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
قدّم دونالد ترامب خطته “للسلام” في غزة.. يمكن للعالم الآن أن يتنفس الصعداء.. فقد أعلن: “انتهت الحرب.. ستستمر الحياة”..
تعيش غزة تحت أنقاض هائلة لا تنتهي.. والضفة الغربية لا تزال محتلة.. ونتنياهو لا يزال في السلطة.. لكن الحرب انتهت.. تُشكّل النقاط العشرون لخطة ترامب خارطة طريق.. تُحدّد بدقة ليس فقط المستقبل القاسي الذي ينتظر فلسطين (سنرى إن كنا سنراها يوماً دولة ذات سيادة فعلية).. بل أيضاً بالنظر إلى المشهد من بعيد.. النظام الدولي بأكمله.
لماذا هذا الاعلان؟ ببساطة تامة.. غياب أي إجراء يهدف إلى محاسبة جميع المتورطين في ارتكاب جرائم دولية. دعونا نشرح أهمية هذا الغياب..
أولاً.. للولايات المتحدة وقع خاص في استخدام مصطلح “السلام” في مواقف لا تعكس هذا المعنى بوضوح. ودون الخوض في تفاصيل أكثر.. نرى أنه في 2020.. خلال ولاية ترامب الأولى.. سُمّي الاتفاق الموقّع مع تنظيم طالبان.. (الذي صادقت بموجبه الولايات المتحدة على انسحابها من أفغانستان بعد استيلائها لعشرين عاماً على السلطة بالقوة).. “اتفاقية سلام”. لا داعي لإضافة المزيد في ظل الوضع الراهن للبلاد.. فلا شيء يسمى سلام في أفغانستان.
ثانياً.. يُعدّ التحقيق في الجرائم الدولية وملاحقة مرتكبيها التزاماً دولياً.. وليس خياراً. في الواقع.. منذ عام 1945.. ومع اعتماد ما يُسمى بمبادئ نورمبرغ (في إشارة إلى المحكمة التي روجت لها الولايات المتحدة.. إلى جانب جهات أخرى.. بعد الحرب العالمية الثانية.. والمعترف بها الآن كمُلزمة).. نصّ أولها على أن: “كل من يرتكب فعلاً يُشكّل جريمة بموجب القانون الدولي يكون مسؤولاً عنه ويخضع للعقاب”. هذا الالتزام العام تمّ استكماله بمعاهدات دولية أخرى أكثر تحديداً.. كاتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948 (مادة 1: “تؤكد الأطراف المتعاقدة أن الإبادة الجماعية.. سواء ارتُكبت في زمن السلم أو زمن الحرب.. جريمة بموجب القانون الدولي.. وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها”).. أو اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.. التي تُصنف انتهاكاتها الجسيمة كجرائم حرب. علاوة على ذلك.. تتضمن جميعها التزاماً على الدول الأعضاء فيها بمقاضاة مرتكبي هذه الانتهاكات.
ثالثاً.. يمتلك المجتمع الدولي.. كما أثبت في مناسبات أخرى.. بدائل للحالات التي تكون فيها الدول غير راغبة أو غير قادرة على مقاضاة الجرائم الدولية المرتكبة ضمن ولايتها القضائية.. وهذا تحديداً هو سبب وجود المحكمة الجنائية الدولية الحالية. مع ذلك.. قبل إنشائها.. أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة محكمتين جنائيتين دوليتين لرواندا ويوغوسلافيا لمقاضاة الجرائم المرتكبة في تلك السياقات.. بما في ذلك الإبادة الجماعية. ومؤخراً.. روّج المجلس الأوروبي لإنشاء محكمة دولية لمحاكمة جريمة العدوان الروسي على أوكرانيا. أي أنه إذا وُجدت الإرادة.. فهناك سبيل.
في ضوء كل ما سبق.. ماذا يعني عملياً غياب أي مبادرة (حتى الآن؟) مدرجة في “خطة ترامب” للتحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة في فلسطين ومعاقبة مرتكبيها؟ الوضع الراهن ليس أكثر ولا أقل من تأكيد للأمر القادم. يبدو جلياً أن الفترة الفاصلة التي بدأت عام 1945.. والتي مثّلت إعادة تشكيل للعلاقات الدولية.. منتقلةً من حكم القوة إلى قوة القانون.. قد شارفت على نهايتها. فالدلائل تتضح بشكل متزايد.. ويرى الكثير منا أن مجتمعنا الدولي.. المُحكوم بالقانون الدولي.. يتجه بشكل هشّ.. ودون رجعة.. نحو ما نجحنا في منعه من أن يحدث: وهو استخدام القوة كوسيلة لتغيير الواقع. يقول ترامب: “لقد انتصرت إسرائيل بكل ما يمكن الفوز به بالقوة”. والحقيقة أنه لا يمكن ان ينتصر طرف بالقوة في وجود التزام صارم بالقانون الدولي.. لكن لا يبدو أن هناك ما يُنذر بإيقاظ الوعي.. لا في مواجهة هذه التصريحات بشأن معناها للجميع.. ولا حتى في مواجهة الإفلات من العقاب الذي يبدو أنه يحمي إسرائيل.
في هذا الصدد.. أكد كلٌّ من رئيس وزراء إسبانيا ووزير خارجيته في الأيام القليلة الماضية.. أن خطة سلام ترامب لا تعيق تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم الدولية المرتكبة على الأراضي الفلسطينية.. بل أنها أصدرت مؤخراً مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو. مع ذلك.. فليس أقل من أن العقل المدبر للخطة.. والذي يحرك خيوط كل ما يحدث وسيحدث في فلسطين علناً.. هو عدو لدود للعدالة الدولية عموماً وللمحكمة الجنائية الدولية خصوصاً.. وهي محكمة.. دعونا ألا ننسى.. تعتمد كلياً على تعاون الدول.. لكونها تفتقر.. على سبيل المثال.. إلى قوات شرطة خاصة بها لتنفيذ أوامرها. هذا الأمر ليس مفاجئاً.. لأننا نتحدث عن شخص قام بتهنئة نفسه بصوت عالٍ على تسليم أسلحة لدولة ترتكب إبادة جماعية.
في نهاية المطاف.. لا تؤثر خطورة الوضع على فلسطين فحسب.. بل على جميع الدول. إذا كان بإمكان البعض الآن الانتصار باستخدام القوة المفرطة.. وإذا كانت التزامات حقوق الإنسان الدولية لا قيمة لها.. فما الذي يمنعهم من المضي قدماً؟ ما الذي يمنعهم من خلق غزة جديدة باي مكان؟ فإفلات إسرائيل من العقاب لا يعني أقل من العبث بالقانون الدولي والعودة إلى عالم طالما تمنينا الهروب منه.