الرئيسيةالراي

رأي- أمير الظلام… حين أبصر الأعمى الحقيقة

* كتب/ د. محمود ابوزنداح  ASD841984@GMAIL.COM (edited)

في زمنٍ اعتاد الناس أن يقيسوا البصر بما تراه العيون، جاء أمير الظلام ليقول لنا إن النور الحقيقي لا يُرى، بل يُحَسّ.
تجلّى عادل إمام في هذا الفيلم كما لم يتجلَّ من قبل، مجسّدًا شخصية الطيّار الذي فقد بصره إثر حادث، لكنه لم يفقد رؤيته للحياة ولا إيمانه بالإنسان.
تحوّل العمى لديه من ضعفٍ جسدي إلى بصرٍ داخلي يرى ما لا يراه المبصرون، ويرفض أن يعيش أسيرًا لظلامٍ صنعته قسوة البشر لا فقدان الضوء.
الفيلم، في مظهره، قصة رجل كفيف يعيش بين مجموعة من فاقدي البصر في دارٍ بسيطة، لكن في جوهره، هو صرخة ضد الظلم، ضد القهر، وضد كل سلطةٍ تسعى لتكميم الأفواه وتحويل الإنسان إلى ظلٍّ باهت.
في أحد أعظم مشاهد السينما العربية، يقف عادل إمام –أو بالأحرى، “أمير الظلام”– أمام لجنة من كبار المسؤولين لمحاكمته. المشهد في ظاهره مساءلة إدارية، لكنه في عمقه مواجهة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والشعب، بين العمى الجسدي والبصيرة الإنسانية.
يجلس الرجل، مرتديا نظارته السوداء، وقد بدا ثابتا كجبلٍ لا تهزّه العواصف. صوته يخرج هادئًا أول الأمر، ثم يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى طوفانٍ من الصدق والعزة.
قال كلماته كأنها نارٌ تضيء وتلسع في آنٍ واحد:
“الإنسان وُلد حرًّا، ولن يستطيع أحد أن يسلبه حريته، إلا إذا تنازل عنها هو بنفسه. الحرية مش مجرد كلمة بنرددها، دي إحساس… إحساس إنك عايش بكرامة، مش بخوف.”
ثم تابع، وقد بدا كأنه يخاطب الوطن كله لا اللجنة فحسب:
“أنا مش شايفكم… بس حاسس بيكم. حاسس بالخوف اللي مالي القاعة، الخوف من كلمة حق، الخوف من النور اللي ممكن يفضح الظلام اللي عشناه سنين.”
في تلك اللحظة، لم يكن المشهد مجرد أداءٍ تمثيلي، بل كان لحظة صدقٍ فني وإنساني نادرة، حملت في طياتها نقدًا عميقًا لواقعٍ عربي مأزوم، تسكنه الأصوات المكبوتة والعقول المكمّمة.
كانت كلماته مرآةً لواقع شعوبٍ تبحث عن نورها وسط دهاليز الفساد والبيروقراطية، عن وطنٍ لا يُدار بالعصا بل بالعدل، وعن إنسانٍ لا يُحاكم لأنه قال الحقيقة.
“أمير الظلام” لم يكن رجلًا أعمى، بل كان رمزًا للضمير الحيّ الذي يرى بالحق حين يعمى الآخرون بالمنفعة والخوف.
في المقابل، كان المبصرون في الفيلم –ومن خلفهم رموز السلطة– غارقين في ظلامٍ من نوعٍ آخر، ظلام الجهل والاستبداد، ذلك الظلام الذي لا تبصره العين ولكنه يسكن الأرواح.
ولعل أجمل ما في الفيلم أنه لا يقدم البطولة في صورةٍ تقليدية. فالبطل هنا لا يحمل سلاحًا، ولا يخوض معركة جسدية، بل يحمل كلمةً، وموقفًا، وإصرارًا على ألاّ يُطفئ الظلم ما تبقّى من نوره الداخلي.
لقد جعلنا عادل إمام نؤمن أن الإنسان قد يفقد بصره، لكن طالما ظل يرى بعقله وقلبه، فهو المبصر الحقيقي، أما أولئك الذين يعيشون في غفلتهم وصمتهم فهم أهل الظلام ولو كانوا يرون الشمس كل يوم.
وفي ختام المشهد، حين قال بحدةٍ وجرأة:

“كلامي واضح… واللي مش فاهمني يبقى هو الأعمى الحقيقي!”
كانت تلك الجملة كالسهم الأخير الذي اخترق جدار الخوف، وأيقظ فينا سؤالًا كبيرًا: من هو الأعمى حقًّا؟
هل هو من فقد عينيه؟ أم من فقد ضميره وبصيرته؟
إن “أمير الظلام” ليس فيلمًا يُشاهد فقط، بل يُقرأ كقصيدةٍ في الحرية، ويُحسّ كنبضٍ في قلب كل إنسانٍ يرفض القهر، ويؤمن أن العدالة ضوءٌ لا ينطفئ.
هو رسالة إلى كل من يعيش في عتمةٍ فرضها الخوف: أن يفتح نوافذ قلبه، فربما النور يسكن داخله منذ البداية.
وفي النهاية، يبقى عادل إمام في هذا الدور أيقونةً فنية وإنسانية، أعاد تعريف معنى البصر والعمى، ليقول لنا:
ليس من يرى هو من يُبصر، بل من يفهم، ويشعر، ويؤمن بأن النور لا يُستمد من العين، بل من القلب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى