الرئيسيةالرايفي الذاكرة

ذكريات حزينة من الماضي الغابر..

لو فكر منتج سينمائي في إنتاج فيلم عن هذه الحقبة السوداء لظل مشاهدو هذا الفلم يبكون طيلة مدة العرض

 

لقد مرت بنا سنوات عجاف ولا نعرف كيف مرت هذه السنوات الماضية..

هل تعلم أنه طيلة هذه السنوات لا توجد في ليبيا أي وسيلة مواصلات برية داخل المدن، فكانت وسيلة المواصلات الوحيدة ما يعرف بسيارات الخيمة التي يحشر فيها الناس كما تحشر الأغنام، ثم تطور الأمر إلى حافلات الكوستر، ثم أنواع أخرى من الحافلات الصغيرة التي لا يتوفر فيها أدنى مقومات السلامة.

* كتب/ وحيد الجبو،

مرت علينا سنوات كنا نذهب فيها خارج المدينة من الدواخل لمسافات طويلة، بحثا عن قطعة لحم نشتريها، لعدم وجود قصابين داخل المدينة. بعد أن تم الزحف علي القصابين والتجار بمختلف أنواعهم.

مرت بنا شهور لم نجد فيها قطعة صابون نغسل بها أجسادنا وملابسنا.

ومرت بنا أيام وشهور لم نجد فيها علبة تن أو قطعة جبن، أو أي شيء نستطيع أن نعمل منه إفطارا لأبنائنا حين يذهبون إلى مدارسهم، حتى إن بعض الأشخاص اضطروا إلى عمل سندوتشات من الطبيخ وفضلات الطعام، وأشياء لا تمت إلى التغذية الصحية للأطفال بأي صلة.

مرت علينا سنوات لم يعرف فيها أبناؤنا شكل الموز والتفاح، وكثيرا من الفواكه. عندما احتكرت شركة التسويق الزراعي العامة استيراد الفواكه.

مرت بنا سنوات عجاف لم يجد فيها الإنسان المركوب الجيد، بعد الزحف على وكلاء استيراد السيارات، وإنشاء شركات عامة يذب فيها الفساد والواسطة وأصحاب النفوذ، وإذا تعطلت سيارتك لأي سبب من الأسباب وذهبت إلى الميكانيكي وأعطاك قائمة بقطع الغيار فستضطر للذهاب قبل صلاة الفجر لتسجل اسمك في قائمة (ليستة)، وتجلس على الأرض تنتظر حتى يأتي دورك، وتحصل على قطع الغيار المطلوبة من مركز توزيع تابع للشركة العامة للسيارات، ونادرا ما تجدها كلها، فتضطر للذهاب إلى الرابش حيث تستغل أبشع استغلال، وكذلك الحال إذا أردت تغيير إطارات السيارة، فالموعد قبل صلاة الفجر والانتظار أحيانا إلى صلاة الظهر، وبعد أيام تحتاج السيارة لتغيير البطارية فتقف في الطابور من قبل صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، في مركز توزيع شركة أمان للإطارات والنضائد، وإذا تعطلت سخانة المياه أو المواد الصحية بالمنزل تعاني الأمرين، وإذا تعطلت الثلاجة أو الغسالة فعليك الانتظار حتى تأتي السلع المعمرة إلى الجمعية الاستهلاكية من سنة إلى سنتين أو أكثر، وتدخل في القرعة وأنت وحظك، لأن المشتركين بالمئات وعدد الثلاجات لا يتعدى عشر ثلاجات.

مرت علينا سنوات عجاف نقف في الطوابير الطويلة أمام الجمعية لنتحصل على دجاجة أو دجاجتين على الأكثر، نرجع بها إلى البيت ونحن في قمة الفرح والسعادة. بعد القضاء علي التجارة التي اعتبرت ظاهرة استغلالية من الكتاب الأخضر.

مرت علينا سنوات طويلة نقف فيها أمام الجمعيات في الأعياد  ونحن نبحث عن ملابس العيد، وترمى إلينا أكياس لا نعلم ما بداخلها، ثم نقوم بفتحها فنجد فيها بعض الملابس والأحذية التي قد لا تتناسب مع أذواقنا ومقاساتنا.

مرت علينا سنوات لا نجد في المناسبات والأعياد العصائر والمشروبات، فننتظر سيارة المشروبات حتى تخرج من المصنع، ونتبعها عشرات الكيلومترات حتى تقف أمام مركز التوزيع، لعلنا نحصل على صندوق أو اثنين من زجاج المشروب، أما بالنسبة للعصير فهناك بعض الأشخاص أقاموا مصانع لا تتوفر فيها أي من معايير الجودة والصحة، وتحضر(القلوني) وتكتب عليه اسمك ونوع المشروب الذي ترغب فيه (لوز/فراولة/ليم)  وكله سكر ولا يوجد فيه المواصفات الصحية، ثم تأتي ثاني يوم لاستلامه.

مرت علينا سنوات لم نجد فيها الخضروات إلا في مراكز التوزيع، التابعة للشركة الوطنية للتسويق الزراعي، ولا يحق لك أن تختار بل تقبل كل ما يعطيه لك العامل بالمركز.

مرت علينا سنوات ينام فيها الشباب أمام منشأة الذهب والمعادن الثمينة للحصول على قطعة ذهب ليتم بها زواجه، وذلك بعد أن يحضر عقد زواج وشهادة عدم إتمام زفاف.

مرت علينا سنوات، غزتنا فيها المنتجات المصرية والتونسية فيما يعرف (سوق المصرية وسوق التوانسة) تعرض فيها أردأ أنواع البضائع من الدولتين ونحن نتكالب عليها لأنها بالنسبة لنا شيء نادر.

مرت بنا سنوات غزا فيها الليبيون تركيا، وجلبوا منها جميع أنواع البضائع من مكسرات وأقمشة وحلويات وصالونات وفرش أرضي، وجميع مستلزمات الأفراح حتى (المصارين) جمدوها وأحضروها في حفاظات، وكانت الباخرة (غرناطة) والباخرة (طليطلة) تذهب فارغة وتعود ممتلئة بكل ما استطاع الليبيون شراءه من أسواق اسطنبول وأزمير. ومن مالطا.

مرت علينا سنوات كانت فيه علب العصير والشوكولاته حكرا على أبناء الطيارين وأطقم الطائرات، والعاملين في السفارات والقادمين من الرحلات الخارجية.

مرت علينا سنوات لم يجد فيها الإنسان المثقف أي كتاب أو صحيفة إلا الكتب والصحف المتمشية مع توجهات النظام وأفكاره، مثل الزحف الأخضر والجماهيرية وغيرها من الصحف التي تطبل للنظام، من أول صفحة إلى آخر صفحة، وإذا فكرت في بناء سكن فعليك الوقوف أياما وأياما للحصول على مواد البناء من إسمنت وحديد ومواد صحية وكهربائية.

مرت بنا سنوات لم نجد فيها الحقائب والأدوات المدرسية، إلا ما تجود به علينا الجمعيات من أردأ أنواع الحقائب والأدوات. أو من الشركة العامة للقرطاسية  والأدوات المكتبية.

مرت علينا سنوات تمشي فيها للمسؤول عن الجمعية إن كانت لك به علاقة لكي تستجديه للحصول على بعض السلع النادرة، فيطلب منك الحضور بعد صلاة العشاء من الباب الخلفي للجمعية، ويعطيك كرتونة وهو يتلفت يمينا وشمالا، ويطلب منك سرعة وضعها في السيارة ولا تخبر بذلك أحدا.

مرت علينا سنوات رأينا فيها الذل والمهانة من أجل الحصول على أبسط مقومات الحياة.

مرت علينا شهور وشهور لم نتقاض فيها مرتباتنا، ولا يستطيع أحدنا أن يتغيب عن العمل أو أن يتفوه بأي كلمة، استقطعوا من مرتباتنا ثمن بندقية ولم نستلمها، ودعم لبنان ولم تدعم لبنان، ونسبة من المرتب لصندوق الجهاد ولم يكن هناك جهاد، خصموا منا ثمن صندوق به سبع دجاجات وديك بحجة (الاكتفاء الذاتي) من البيض ولم نتحصل على البيض ولا الدجاج ولا الديك، وقفنا طويلا أمام المنشأة الزراعية للحصول على طبق بيض بعد شهور طويلة لم نذق فيها طعم البيض.

هذا قليل من كثير مما عاناه الناس وكل ذلك حدث في كل المدن والقرى النائية.

وإذا فتحت التلفاز لكي تروح عن نفسك قليلا فلن تجد فيه إلا ما يزيدك غما إلى غمك، حيث تبدأ البرامج بأخبار الصقر الوحيد وملك الملوك وترهاته، والأغاني التي تنافقه وتمجده، وتنتهي البرامج بأخبار القائد الأممي العظيم، وزياراته ولقاءاته مع شذاذ الآفاق، الذين يأتون إليه من كل حدب وصوب، يتملقونه وينافقونه لكي يغدق عليهم من أموال هذه البلاد الجماهيرية العظمي، التي بددها على ترهاته وأحلامه الجنونية.

ولا أريد أن أحدثك عن المؤتمرات الشعبية، اللجان في كل مكان، وعن خطابات الصقر الوحيد التي تستمر أحيانا لأكثر من ثلاث ساعات، وكيف يحشر لها الناس من الصباح الباكر ولا يأتي إليهم إلا في المساء، وهم يتضورون جوعا وقد أعياهم التعب والإرهاق وهو لا يبالي بهم.

ولا أريد أن أحدثك عن المنافقين والمتسلقين الذين عاشوا على دماء هذا الشعب، ولم يعانوا ماعاناه الناس طيلة هذه السنوات العجاف.

لا أريد أن أحدثك عن أجهزته الثورية وما قامت به..

لا أريد أن أحدثك عن السجون والمعتقلات وانتهاك الحرمات، والإعدامات التي طالت عددا كبيرا من شباب هذا الوطن في 7 أبريل، واتهام الآخرين وأصحاب الرأي الآخر بالخيانة والعمالة؛ لأنني إن أردت أن أحدثك عن كل ذلك لن تسعنا الساعات الطوال.

وباختصار لو فكر منتج سينمائي في إنتاج فيلم عن هذه الحقبة السوداء لظل مشاهدو هذا الفلم يبكون طيلة مدة العرض، وربما بكوا أياما أخرى بعد العرض.

كل هذا حدث في ليبيا التي كانت تصدر قرابة مليون و600 ألف برميل يوميا، وكان سعر البرميل 120 دولارا للبرميل الواحد، ناهيك عن الثروات الأخرى التي حبانا الله بها.

وأخيرا … أقول فليراجع نفسه على من يتباكى على تلك السنوات، وذلك النظام الذي لازلنا نعاني آثاره، وقد حدثت أخطاء كبيرة بعد فبراير استهدفت سرقة الثورة وتفريغها من محتواها والالتفاف عليها وإعادة إنتاج الديكتاتورية، ولكن بعزيمة المخلصين نتوجه إلى بناء دولة القانون والتداول السلمي على السلطة، لتحقيق الأهداف المرجوة في الحرية والعدالة والمصالحة الوطنية ونطوي صفحة الماضي ونفتح صفحة ليبيا الجديدة حفظ الله البلاد والعباد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى