دروز بلغراد.. حكاية حنا، وحكايتي وربيع..
* كتب/ يحيى القويضي،
1860م – بيروت.
هنالك عاش حنا يعقوب مع زوجه هيلانة، وبربارة ابنتهما – ذات السنة إلا شهر ونصف – في فقر وسلام قبل أن تقذفهم جهنم بحممها، بسبب الحظ العاثر، ووجودهم في بيروت المتخمة بالأديان، والأجناس،، والمترعة بالأحداث، والمفارقات،،، والتاريخ المُر.
فيما كانت بربارة تحبو، كانت أمها هيلانة تعتني بالدجاجات، وتجمع عند الغروب البيض، كي تسلقه الفجر التالي، ليخرج حنا ويبيعه في أزقة المدينة، ويأتيهن بالخبز،، آنذاك تقاتل الدروز والنصارى، وصارت مجزرة طالت أيضا النساء والأطفال!، السلطان العثماني قرر نفي الدروز الذين تورطوا في الأحداث إلى طرابلس الغرب والبلقان.
“غفار عزالدين” ركب بغلته الشهباء فجرا منحدرا صوب بيروت ليقابل الوالي إسماعيل باشا الهنقاري، كانت ثمة بغلتان تسيران خلفه محملتان بأطعمة وهدايا، وبجرتين فيهما ذهب العائلة، ليفدي بكل ذلك أبناءه الخمسة الذين تقرر نفيهم ضمن المنفيين.
إسماعيل باشا كان لبقا ومؤدبا لكن صارما مع الشيخ غفار: أنا أيضا أب، وأعرف منزلتك في قومك، قبلت هداياك، والذهب سنوزعه على النصارى كتعويض، لكن السلطان قضى قضاءه، وإكراما لحضورك ومكانتك، سأخلى لك أحد أبنائك، هيا اختر واحدا منهم، وامض في سبيلك قبل أن أغير رأيي.
“حنا يعقوب” خرج يبيع بيضه المسلوق مبكرا، قادته قدماه إلى المرفأ، كان الدروز المنفيين جاثين على ركبهم فوق رصيف الميناء، الضابط نادي حنا: ستنظم لهؤلاء، العدد ناقص واحد، اركب معهم وانزل في عكا، حينما ترجع سأهبك ثلاثة جنيهات ذهب، حينما استوعب حنا كلام الضابط صرخ مستجديا قبل أن يخرسه عقب البندقية الذي هشم تضاريس وجهه، قُيِدَ ووضع في السفينة المبحرة للبلقان، ذاك الوقت، كان الشيخ “غفار عزالدين” يدخل بيته في الجبل، وبرفقته ابنه “سليمان”.
“حنا” حمل مرغما اسم “سليمان غفار عزالدين”، وحمل جريرته أيضا، ونفي مع الدروز، وقضى الاثني عشر عاما الآتية يتنقل بين أقبية سجون وقلاع بلغراد، وصوفيا، والجبل الأسود وغيرهن، ذاق ورفاقه فيهن أبشع أنواع العذاب، قضى معظم المنفيين بالأوبئة، والجوع، والرصاص، والأحجار المتساقطة، والبرد، ماتوا مجانا، وتفرقت القلة الناجية إثر إغارة لصوص، حنا وجد قافلة حجيج تنتوى مكة، أنقذه اسم سليمان، التحق بهم، وصلى معهم حتى وصل دمشق، ومنها مال نحو بيروت، وصل بيته مهشم الروح والبدن، شعره أبيض وهو بعد في ثلاثينياته، وقف في العتبة، رأى هيلانة زوجته مثلما تركها تماما، فتيّة، مشرقة، نضرة، ضاجة بالحياة، التفتت هي إليه، ظنته متسولا، نادت: أمي، أحدهم بالباب، ظهرت هيلانة عند باب المطبخ، شهقت: حنا، الجالسة كانت باربارة.
هذا تكثيف لرواية دروز بلغراد، أدرك أنه مُخل، فالرواية باذخة التفاصيل، ومشحونة بالانفعالات والتوترات، والحزن، والأمل أيضا، لكن كان من الواجب عرضها على مستوى الحدث،، في مستوى الرمزية الرواية تعد منجما حقيقيا للتأويل، شخص الكاتب، دينه، ثقافته، البطل، أسرته، مدينته، السلطة، المنفى وأحداثه، الخلفية التاريخية، رحلة الإياب، مشهد النهاية، كل ذلك مفتوح ليصيغ القارئ تأويلاته الخاصة، وكل ذلك استخدمه ربيع جابر ليقول كلماته، ويوصل رسائله، وقد نجح باقتدار، هو يستحق البوكر.
إعجابي بالرواية دفعني إلى البحث عن كتابات ربيع جابر، إذ لم يسبق أن سمعت به، وجدت أولا روايته “أميركا”، قرأتها وكانت رائعة، بمستوى دروز بلغراد، أتذكر أنها تتكلم عن أوائل الشوام الذين هاجروا لأمريكا، ما دفعني لاقتناء خمس روايات أخر له: بيروت مدينة العالم 1،2،3، طيور الهوليدي أن،، كنت أميرا،، كين ساي،، يوسف الانجليزي،، الصفقة كانت مضمونة: قلم متمكن، وكنز روائي!، لكن لم أكمل أي رواية منهن حتى النهاية، كن مثل تقرير صحفي رديء، بالغات السوء، وخلون تماما من روح الرواية، غضبت من ربيع جابر، شعرت بأنه “هبّـعني”، ثم تذكرت رائعتيه: دروز بلغراد، وأميركا، فقلت هذه بتلك، وسامحته، وتذكرت بشريتنا، الناقصة أبدا، بعدها سمعته على يوتيوب يقول بأنه ليس من الضروري أن يكتب الكاتب أعمالا كثيرة، عمل واحد قد يكفيه ليقول كل ما عنده، حينها صالحته تماما، فقد قال ربيع ما يوده في عملين جميلين.
لقد صالحته أيضا لأني أقررت بمسؤوليتي عن خطأ الاقتناء، فالمرء بصورة أو أخرى عليه وحده سداد فواتير اختياراته الرعناء، مهما كانت باهضة أو بشعة، أو مؤلمة.
دفع الله عنكم ذلك.