* كتب/ هشام الشلوي،
أذكر أن آخر ثلاث روايات قرأتهن كانت للروائي الإنجليزي من أصل بولندي جوزيف كونراد، وكان ذلك من سنتين أو ثلاث خلون، ثم انصرف ذهني عن قراءة الروايات، لا عن استنقاص من قدرها، كما يصطنع “المتطهرون الجدد” الذين تعلقوا بأهداب الأدب العربي حديثا، ثم تاقت أنفسهم إلى إثبات أن جنس الرواية لم يلوث ذوقهم وأغشية قلوبهم.
وهذا وهم محض، لأن الرواية فن قادر على تمثيل كبريات الفلسفات الجامدة، وبث الحياة في أجداث أعتى الأفكار تجريدا، تستوي الفلسفة والفكرة على سوقها وتنهض تسير بين الناس، فالفكرة المجردة والذهنيات الخالصة تبقى حبيسة الكتب، حتى إذا التقط معانيها فنان وصاغها في قالب روائي، نهضت ونفضت عن نفسها الغبار وجرت بين الناس تعلن أنها من دم ولحم.
وهذا كان هو سهم “أحمد فال الدين” الذي أطلقه على أفكار حياة إمام عظيم من أئمة الإسلام وحجة من حججه، فطارت حياة الغزالي منبعثة من جديد، تسير بين أظهرنا، نراها حية، ترقص وتغني وتبكي وتهرول، تنام وتستيقظ، تفكر وتطرب، تتألم وتبكي وتهتز فرحا. والرجل الذي يُحيى فكرة أو فلسفة فكأنما أحيا أرضا ميتة.
إنك لا تقرأ رواية متخيلة صنعها ذهن مترف، بل تشاهد تاريخ الإسلام مرقوما ومسطورا، في بقع من بقاع العالم الإسلامي، في نيسابور وبغداد وأصفهان ودمشق والقدس والقسطنطينية قبل فتحها.
يحاور الغزالي نظام المُلك عن أزمة عالم الإسلام، ثم يهتدي حجة الإسلام إلى أن الطبيب هو المريض، أي إن داء الأمة في علمائها الذين طرقوا أبواب السلاطين والأمراء وزينوا لهم، وبعدوا عن الدين الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وطبقه صحابة كرام في الأنفس والآفاق.
ولك أيها الفاني أن تقرأ الرواية من طريقين، وتسلك إليها من سبيلين؛ أحدهما العقل، والثاني القلب، وهذا لازم لفهم هذا النص الذي امتزجت فيه الفلسفة والمنطق وعلم الكلام بهمسات القلوب ووجيبها عند تأمل جو السماء أو سماع نأمة درويش يناجي ربه.
والرواية تفتح أمام أعيننا نقاشات القرن الخامس الهجري العقدية والفكرية، وهو قرن تدافعت فيه المذاهب الفقهية في حلقات الدرس في المساجد، وبالأيدي والعصي في الأسواق والشوارع، ونسجت فيه الباطنية شباكا كثيفة حول معنى النص الظاهر، محاولة فك الارتباط بين ألفاظ ومعاني الإسلام كما نزل، وصناعة معان جديدة لا عهد للإسلام بها، ثم كان علم الكلام حاضرا كدرع واق وللرد على أفانين الفرق الكلامية السياسية والعقدية، وعلى رأسهم المعتزلة.
استوحى فال الدين قصة من قصص أوبة إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري عن فكر المعتزلة، عندما جرت مناظرة بينه وبين شيخه أبو علي الجبائي، حينها سأل الأشعري الجبائي عن مصير مؤمن وكافر وطفل يوم القيامة، فأجاب الجبائي إجابة لم تقنع تلميذه، الذي أفحمه برد حار مع لب الجبائي.
وهي قصة مشكوك في أمرها تاريخيا، وهي ضمن روايات عدة ذكرتها كتب الفرق عن سبب تخلي الأشعري عن مذهب الاعتزال، لكن “فال الدين” نسجها على لسان الغزالي في مناظرة بينه وبين شيخ من شيوخ المعتزلة في حضرة الوزير نظام الملك، وربط بين الغزالي وشيخه الأشعري بخيط ترى الغزالي ممسكا بأحد طرفيه في القرن الخامس، والأشعري ممسك بالطرف الآخر في القرن الرابع.
الاحتراق يقع مع النار لا بها
تشرح تلكم العبارة الجذلة نظرية السببية عند الغزالي، ولا أدري إن كان فال الدين عثر عليها في تراث حجة الإسلام، أم من بنيات أفكاره وتسطير يراعه، وفي الحالتين وفق “فال الدين” أيما توفيق، إذ في ظني أن عبارة “الاحتراق يقع مع النار لا بها” أوفت وكفت، فالعلاقة بين السبب والمسبب عند الغزالي ليست على الضرورة، وهو يحاول في نظريته تخليص الفلسفة الإسلامية من أغلال أرسطو ومنطقه، فالله حاضر بينهما، أي السبب والمسبب وهو الخالق لهما ولو أرد جلا شأنه أن يفصم تلك العلاقة فلا معقب على حكمه، وذلك إسهام يعيد المسلم إلى فيافي الإيمان الخالص، الإيمان الذي يستحضر في ذهن المسلم قدرة الله، وأنه لم يخلق الكون ثم يهمله، أو أن يفيض عليه بدفعة، ثم يغفل عنه –تعالى الله عن ذلك- كما حاولت الأفلاطونية المحدثة إثبات ذلك، وطار عقل الفارابي بنظرية الفيض لأفلوطين وتبعه وسار على نهجه فلاسفة مسلمون رسما.
فالغزالي لا يرفض العلاقة بين السبب والمسبب، بل لا يجعلها ضرورة لازمة، فإذا ما وضعنا قطنا بجوار النار، فإنه سيحترق لأن الله خلق تلك القدرة في النار، لا لأن النار قادرة في ذاتها ومن ذاتها على فعل الإحراق.
أطوار حياة حجة الإسلام
تعرض الرواية حياة الإمام وأطوارها، من التعلم والتفقه على يد أساطين عصره، كالجويني رحمه الله، الذي سلك معه في دروب الكلام والمنطق وفقه الإمام الشافعي، ليخرج بعد ذلك إماما عظيما مفتقا مشققا للكلام، عالما بالفروع والأصول، منافحا عن شرائع الإيمان ضد تخرصات وتوهمات الباطنية الإسماعيلية، ثم يدخل إمامنا في طور الشك، الشك في قيمة علمه وحياته، الشك في مصادر معارفه وقدرتها على الوصول إلى اليقين، الشك في جدوى المنطق والكلام والفلسفة وفقه الفروع، وهو شك قاد شيخنا إلى حقيقة التصوف أي كبح جماح النفس عن طلب الدنيا والتوسل بالعلوم إلى الأمراء والخلفاء والوزراء، التصوف الذي يفتح كوة النور الإلهي الذي يفيض على قلب صاحبه فيخرج من الدنيا وهو يتقلب فيها، شك قاد الغزالي إلى حقيقة الإسلام والإيمان وحقيقة العلوم ومصادرها، شك انتهى بكتاب “إحياء علوم الدين” الذي توج به الغزالي رحلته في عالم اليقين، أراد به أن يهدي العلماء والخاصة إلى النور الذي سطع على قلبه، وأن يهديهم ويزيل عن عقولهم أدران الدنيا ووحشتها وقصرها.
شك خلع به الغزالي بهرجة بغداد وزينتها وقصور خلفائها ووزرائها وكبار قوادها، ليجاور المسجد الأموي في دمشق ويبدأ في التخلص من أوضار نفسه وعقله وقلبه، ويجعل السيطرة والإحكام في رحلته لقلبه على عقله ونفسه، فالخوض في المنطق وعلم الكلام والفلسفة وفروع الفقه ليس دليلا على الإيمان، وإلا لماذا يخبرنا التاريخ بسادة في هذه العلوم زادهم من الإيمان لا تكاد تراه البصيرة أو تشعر به قلوب المتلقين.
فمشروع الغزالي النهائي وختام رحلته بعد خوضه غمار الكلام والمنطق والرد على الفرق وإجادة فروع الشافعية، هو إحياء علوم الدين، وإحياء قلوب العلماء الذين يقودون جموع الأمة، والتنبيه على أن للدين معان سامية بدأت تنزوي عند أهل زمانه.
معجم “فال الدين”
سألت مرة صديقا موريتانيا مشتركا بيني وبين فال الدين، عن ثقافة فال الدين وتحصيله، فأجابني: إنه رجل يعيش بعقله وفكره في القرون الخمسة الأولى للإسلام.
وصدق حدس صديقنا، ولا أدل على ذلك من معجم فال اللغوي وطريقته في البيان في الرواية، فحاجتك إلى معجم لغوي بجوارك وأنت تقرأ الرواية، لا شك فيه، وقد سجلت معاني كثير من كلمات الرواية بالرجوع إلى المعاجم، وقد يظن ظان أن الرجل يتصنع اختيار الكلمات المستغربة، وهذا وحق ربي ظن بئيس، لأن العُجمة التي سيطرت على لساننا والنصوص القميئة التي نقرأ هي التي باعدت بيننا وبين نبع العربية الصافي. أما البيان وطلاوته وحلاوته وأناقته، فإن كنت من متذوقي العربية ومحبي بيانها، فسيطير لبك وتذهل نفسك أمام جمله وعباراته.
وقد تعمدت ألا أقرأ عن الرواية حتى أخلص إلى أفكاري وتخلص إلي، وقد كتب عنها كُثر، وكلهم خير مني أدبا وثقافة وذوقا، وأما ما كتبته فهو محض رأي رأيته.
للكاتب أيضا: