عربي 21-
أنتجت “عربي21″ فيلما وثائقيا يكشف تفاصيل ومستندات جديدة حول قيام الإمارات، عام 2019، بخداع مواطنين سودانيين ومحاولة تجنيدهم للعمل كمرتزقة في صفوف قوات حفتر، والذي كان حينها قد شنّ هجوما على طرابلس وضواحيها، لمحاولة السيطرة على العاصمة، لكنه فشل في ذلك رغم الدعم الكبير الذي تلقاه من دول كبرى وأخرى إقليمية من بينها الإمارات.
فبحثا عن لقمة العيش، وجد مئات السودانيين أنفسهم يعملون كمرتزقة في صفوف قوات حفتر، بعدما تعرضوا لـ”خديعة ماكرة” من قِبل إحدى الشركات الأمنية الإماراتية تُدعى “بلاك شيلد للخدمات الأمنية”، والتي قامت بتوظيفهم، وأوهمتهم بأنهم سيعملون كحراس أمن في ناطحات السحاب أو مراكز التسوّق الضخمة في العاصمة الإماراتية أبو ظبي.
وفي التحقيق الوثائقي الذي أجرته “عربي21″، تتبعنا كيف تلاعبت شركة “بلاك شيلد” بشباب سودانيين لضمهم إلى مليشيات ليبية، وهل هي شركة خاصة أم تابعة للقوات المسلحة الإماراتية، وإلى ماذا ستؤول “خيوط الخديعة”.
وفي أغسطس 2019، بدأ التواصل مع الضحايا في السودان، في حين سافرت أول دفعة منهم إلى الإمارات في 22 سبتمبر 2019.
كانت بعض الوكالات السودانية تورطت في التواصل مع الضحايا والإيقاع بهم، منهم: “وكالة الإيثار” التي يمتلكها اللواء المتقاعد طارق عمر أحمد، ووكالة “أماندا” لصحابها حذيفة محمد إبراهيم، ومكتب الأميرة للاستخدام الخارجي الذي تملكه أميرة كمال.. والذين جرى القبض عليهم فيما بعد، فضلا عن “وكالة الحميراء”، وبعض الوكالات الأخرى.
لكن مع اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، والتي مضى عليها أكثر من 500 يوم، أُطلق سراح المقبوض عليهم من قِبل قوات “الدعم السريع”.
وحصلت “عربي21” على نسخة من التعاقد الذي أبرمته “بلاك شيلد”، والذي نص على العمل داخل إمارة أبو ظبي وليس خارجها، وتفحصنا بنود العقد وجاء في بنده الأول أن الوظيفة هي “حارس أمن” وبراتب 1840 درهما إماراتيا؛ أي ما يعادل 500 دولار تقريبا.
وقد حصلنا على شهادات ووثائق وصور حصرية توثق تفاصيل القضية وتطوراتها.
وتحدثنا إلى ثلاثة من الشباب الضحايا، هم: بدر الدين مصطفى عبد الرحيم، وحيدر عبد الرحمن علي، وأحمد عوض الكريم.
غموض “بلاك شيلد”
بَحَثنا في المصادر المفتوحة التي تتيحها دولة الإمارات للاطلاع على أوضاع الشركات، لكن بَحثنا لم يصل إلى أي نتيجة؛ إذ لم يتوفر أي سجل مدني لترخيص بهذا الرقم على مواقع الدولة، ولم نعرف أبعاد نشاطها وأماكن وجودها أو ميزانيتها بطبيعة الحال.
بينما وصلنا عن طريق مصادرنا إلى معلومات تفيد بأن الشركة مُسجلة في “دائرة التنمية الاقتصادية” بأبوظبي كمؤسسة فردية وشركة ذات مسؤولية محدودة ومُدرجة على الموقع الإلكتروني لحكومة أبو ظبي كشركة خدمات أمنية تأسست عام 2019 بترخيص رقم CN-2837651.
ويؤكد الضحايا أن شركة “بلاك شيلد” تتبع وزارة الدفاع الإماراتية؛ إذ لا تستطيع الشركات الخاصة الدخول إلى معسكرات القوات المسلحة الإماراتية، ولا تتمتع بهذا القدر الكبير من النفوذ والأعمال الخطرة خارج البلاد.
ومن المعلوم أن دخول المعسكرات والقواعد العسكرية وحركة الطيران العسكري في دولة الإمارات لا تتم إلا بواسطة القيادة العليا بالدولة، ما يؤكد علم الدولة بذلك. وسمّت الشركة الأفراد الذين سعت لتجنيدهم بقوات الإسناد العسكري “القوات المساندة”، وهو ما كان مكتوبا في استمارة “الكشف الطبي” و”كشوفات السرايا” وبطاقات عسكرية أخرى.
وأصبح مؤكدا بالنسبة لنا أن تلك الشركة قامت بمهام عسكرية لصالح الجيش الإماراتي، وتعود ملكية الشركة إلى ديين سيف معضد الكعبي، وهو رجل إماراتي وصفه مقال لـ”وكالة أنباء الإمارات” الرسمية عام 2012 بأنه عقيد في القوات المسلحة دون أن يذكر لقبه العسكري.
ووجدنا أيضا اسم العميد مسعود المزروعي في صحف يمنية عامي 2017 و2018 كنائب لقائد القوات الإماراتية وقائد عمليات التحالف بعدن، وتعرّف عمال سودانيون على هذا الشخص في شركة “بلاك شيلد”، والذي قدّم نفسه لهم في وقت من الأوقات كنائب مدير في الشركة.
تفاصيل مثيرة
وبدأت فصول الرحلة المثيرة تتكشف أمام أعين الضحايا السودانيين شيئا فشيئا عقب وصولهم إلى مطار أبو ظبي، خاصة بعدما سُحبت منهم جوازات سفرهم وهواتفهم النقالة.
لاحقا، خضع السودانيون البسطاء لتدريبات عسكرية متقدمة لعدة أشهر، حيث إنهم تدربوا على أسلحة نارية خفيفة وثقيلة، كما أنهم حصلوا على دورات إسعافات أولية، فضلا عن دورات حفر الخنادق، وإخلاء الجرحى والمصابين، لتصبح لديهم مهارات الهجوم والانسحاب.
لكنهم بمرور الوقت اكتشفوا أنه تم إرسالهم -مع آخرين- إلى قاعدة عسكرية في ليبيا، بعدما تم خداعهم بأنهم ذاهبون إلى “مكان عملهم” غير المعلوم، وكان رد الشركة عليهم مبهما متذرعا بأنهم سيعملون وفق “أغراض أمنية”، وهو ما أثار قلقهم وحفيظتهم.
هذا القلق تصاعد في وجدانهم إبان وجودهم أمام طائرة عسكرية إماراتية في مطار الريف العسكري، لا سيما بعدما أخبرهم المضيف العسكري بأن الرحلة ستستغرق نحو 5 ساعات ونصف الساعة. حينها عمّت الفوضى داخل الطائرة، وهنا تدخل بعض مسؤولي الشركة لاحتواء الأمر زاعمين بأنهم سيذهبون إلى المحمية الوطنية للشيخ محمد بن زايد في أفريقيا الوسطى، لكنهم فيما بعد وصلوا إلى قاعدة جوية إماراتية في ليبيا.
لم يعلم هؤلاء الأشخاص أنهم في ليبيا إلا من خلال قوارير المياه التي كان مُكتوبا عليها “من آبار ليبيا الجوفية.. صُنعت في بنغازي”، وهنا كانت الصدمة.
وسرعان ما أتت طائرة صغيرة لتأخذهم إلى مطار بمدينة راس لانوف الغنية بحقول النفط والموانئ النفطية، واستقبلهم جنود “حفتر” بحفاوة كبيرة، ثم انتقلوا من هذا المطار إلى معسكر مهجور به آثار واضحة لدمار ومقابر جماعية.
ثم قيل لهم من قِبل بعض ضباط حفتر إنهم إذا عملوا معهم في ما وصفوه بـ”تحرير” العاصمة طرابلس فسوف يتم صرف رواتب شهرية تبلغ قيمتها 4 آلاف دولار، وسيتم منحهم الجنسية الليبية.
وفي ليبيا، كانت المعاملة جيدة مع الضحايا في بداية الأمر، لكن بعد رفضهم العمل كمرتزقة فقد تمت معاملتهم بشكل سيئ للغاية، إلى أن تمت إعادتهم مرة أخرى إلى الإمارات بنفس الطريقة، كما أكد ثلاثة أشخاص من الضحايا، والذين تحدثوا في مقابلات حصرية مع “عربي21”.
وتمكّن بعض الأشخاص السودانيين من إرسال رسائل نصية عبر أحد الهواتف النقالة إلى أهلهم مفادها أنه تم الغدر بهم من قِبل الشركة الإماراتية، وجرى إرسالهم كمرتزقة مع قوات “حفتر”، وتسرّبت آنذاك بعض التفاصيل إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
احتجاجات غاضبة
على إثر ذلك، وفي مطلع عام 2020، اندلعت احتجاجات أمام مقر السفارة الإماراتية بالخرطوم وأمام مقر وزارة الخارجية السودانية، وذلك في أعقاب تكشف ما جرى مع العمال السودانيين، وقامت العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية بتغطية تلك المظاهرات التي ضجّت بها أيضا مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ما شكّل ضغطا مؤثرا على دولة الإمارات، وسرعان ما تحول الملف إلى قضية رأي عام بعد زيادة حدة الاحتجاجات وبفضل الضغوط الشعبية.
وفي 20 يناير 2020، نُقل السودانيون الذين رفضوا العمل دون إبلاغهم بمكان عملهم من معسكر الغياثي بالإمارات إلى معسكر آخر قريب، وكانوا في ظروف شبيهة بالاحتجاز دون هواتفهم لمدة أسبوع، وشعروا بأنهم مقيدون بشدة، لكنهم قرّروا الإضراب عن الطعام بعد ثلاثة أيام، حتى يتمكنوا من تسريع عملية إعادتهم إلى السودان، رغم التهديدات التي تعرضوا لها، والتي كان من بينها إرسالهم إلى “وحدة الإرهاب” التابعة لجهاز أمن الدولة إذا استمر إضرابهم عن الطعام.
وبحسب مقاطع الفيديو التي حصلت عليها “عربي21″، فقد خضع العمال السودانيون من قِبل مسؤولي “بلاك شيلد” لمحاولات متعددة لإقناعهم ومساومتهم لحثهم على الاستمرار في العمل مع الشركة أو السماح لهم بالعمل داخل الإمارات، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل ورفض العمال العرض.
وتم عقد اجتماع بين الضحايا ومَن زعموا أنهم يُمثلون إدارة الشركة التي تسترت خلف لافتة “القطاع الخاص”، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا مسؤولين وضباطا إماراتيين من ذوي الرتب العليا.
ترغيب وترهيب العمال السودانيين
وحاول المسؤولون الإماراتيون احتواء غضبهم، قائلين إن هناك أخطاءً حدثت من دون قصد، ودون خوض في التفاصيل، مُسترشدين بعبارة “عفا الله عما سلف”، وسعوا لإسكات أصواتهم بالتهديدات تارة وبالإغراءات المالية تارة أخرى، لكن السودانيين رفضوا كل ذلك، وأصرّوا على العودة لبلادهم، والبدء في إجراءات قانونية علها تنصفهم وتعيد إليهم حقوقهم.
وخلال الفترة من 31 يناير إلى 7 فبراير، اشترت الشركة الإماراتية تذاكر السفر للعمال، ولم تُعِد لهم جوازات سفرهم إلا قبل لحظات من صعودهم إلى الطائرة المتوجهة إلى الخرطوم.
وفي 4 فبراير 2020، عاد إلى الخرطوم 80 سودانيا كانوا في منطقة “راس لانوف” الليبية، ثم توالت لاحقا عودة الآخرين بنفس الطريقة التي غادروا بها.
ووعدت “بلاك شيلد” بتسوية الحقوق بعد العودة إلى السودان، وتوظيف الشباب في المشاريع الإماراتية بالسودان بعد أخذ أرقام هواتف الضحايا وعناوينهم، ولكنها كانت وعودا كاذبة بنفس الخديعة بهدف إرسالهم بسرعة دون إثارة مشاكل، ومن ثم تم حظر الضحايا من دخول دولة الإمارات بأمر من جهاز “أمن الدولة”، وذهبت جميع أحلامهم أدارج الرياح، كما أكد الضحايا.
وعقب عودة جميع الضحايا السودانيين إلى بلادهم، فإنها لم تتوقف التظاهرات الخاصة بتلك القضية، بل جرى تنظيم العديد من الفعاليات الاحتجاجية من وقت لآخر أمام مقر السفارة الإماراتية، ووزارة الخارجية السودانية، ومكتب النائب العام، ووزارة العدل، وطالب الضحايا حكومة حمدوك بمخاطبة الإمارات كي تعتذر رسميا عن ما فعلته وتعيد إليهم حقوقهم، وأعلنوا عزمهم على اتخاذ إجراءات قانونية وقضائية في حق الشركة التي تعد واجهة للنظام الإماراتي لتجنيد المرتزقة، من أجل جبر الضرر النفسي والمعنوي الذي تعرضوا له نتيجة تلك الخدعة أو “الاستغفال الصادم”، بحسب وصفهم.
لكن تلك الوقفات الاحتجاجية قوبلت حينها بالرفض والقمع من قِبل جهاز الشرطة السوداني وتهديد الضحايا.
وفور البدء في الإجراءات القضائية تم إلقاء القبض على بعض الشخصيات داخل السودان، وأصدر الإنتربول “أوامر قبض دولية” ضد بعض المتهمين العاملين في الشركة الإماراتية، فضلا عن ملاحقة بعض شركات الطيران التي تورطت في تلك الجريمة.
وتمت مخاطبة السفير الإماراتي بالسودان عبر وزارة الخارجية السودانية بمذكرة من قِبل لجنة ضحايا شركة “بلاك شيلد”، بينما لم يتلقِ الضحايا أي رد، وتم تجاهلهم تماما، وقاموا أيضا بمخاطبة المسؤولين بالدولة حتى وصل الملف إلى المجلس السيادي، ومجلس الوزراء، والنيابة العامة، لكنهم يقولون إنهم لم يجدوا اهتماما حقيقيا بقضيتهم، بل “مماطلة غير مفهومة” من قِبل الدولة.
ويتهم الضحايا قوات “الدعم السريع” بأنها كانت “السد المنيع لمنع تقدم الإجراءات القانونية ضد الشركة الإماراتية؛ فكلما تقدمنا خطوة للأمام تتم عرقلة الملف وتأخيره، وقامت قوات الدعم السريع، وعبر المكتب القانوني، بتغيير ونقل مدير المباحث، ومدير قسم شرطة الإتجار بالبشر، ورئيس نيابة الاتجار بالبشر، واستدعاء المحامي الخاص بنا بنقابة المحامين السودانيين، وحاليا قوات الدعم السريع متواجدة بمكتب المحامي بالخرطوم، وحاولنا سحب الملف من المكتب، ودفعنا لهم مبلغا ماليا حتى نتحصل على الملف كاملا، ولكن باءت كل المحاولات بالفشل”.
ويقول الضحايا إنهم يريدون الإنصاف، وتحقيق العدالة، وتسوية حقوقهم، متسائلين: “لماذا جلسوا يفاوضوننا مطأطئي الرؤوس، وأتوا بالمستشارين القانونيين والوسطاء داخل الإمارات لمحاولة احتواء الأزمة؟”، ويؤكدون أن “هذه جريمة اتجار بالبشر مكتملة الأركان المادية والمعنوية”.
وتفيد تقارير إعلامية غربية بأن شركة “بلاك شيلد” الإماراتية جنّدت ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سوداني، عن طريق مكاتب سفر سودانية أو وسطاء يعملون لصالحها.
وراسلت “عربي21” شركة “بلاك شيلد” وعرضنا الادعاءات التي وردت في هذا الفيلم الوثائقي، لكننا لم نتلقَّ أي رد إلى حين بث هذا التحقيق.