الناس-
منذ أن تولى الدبيبة رئاسة الحكومة في ليبيا ووجد أمامه قيس سعيد على رأس الدولة في تونس. لم يشهدا تواصلا متميزا كما كانت العلاقة غالبا بين حكومات الدولتين الجارتين.
في العام 2024 برزت إلى الواجهة قضية معبر رأس اجدير أهم المعابر بين البلدين، وتسببت التطورات الأمنية في المعبر إلى إغلاقه لأشهر، فهل كان الخلاف في المعبر هو قمة جبل الجليد للخلاف بين الحكومتين. خاصة وأن المتضرر الأكبر من إغلاق المعبر هم سكان الجنوب التونسي. دون إغفال المرضى الليبيين الذين ينشدون علاجا لدى المستشفيات التونسية.
مؤخرا نشر موقع تونسي خبرا عن استدعاء الدبيبة للمثول أمام القضاء التونسي في قضية تعود لسنة 2017 مرتبطة برجل الأعمال التونسي شفيق جراية والشخصية السياسية في ليبيا عبدالحكيم بلحاج، وتجدر الإشارة إلى أن جراية حكم عليه بالسجن 95 عاما في قضايا تتعلق بشركتين يملكهما وعائلته.
السلطات الرسمية في تونس لم تسارع -واستغرقت أسبوعا تقريبا- لنفي الخبر.
القضايا الحقيقية التي يمكن أن تثار بين البلدين ليست كثيرة ولا معقدة. بل إن ما يجمعهما على الدوام كان أكثر مما يفرقهما، ولعلنا نشير هنا إلى اللقاءات الثلاثية بين رئيسي البلدين مع الرئيس الجزائري في العام الفائت، والتي اتفق على أن تعقد كل ثلاثة أشهر.
لكن توجد قضايا بعضها قديم يراد أحياؤه كقضية الحدود والثروات، وبعضها مستجد ويمكن معالجته كقضية الهجرة غير الشرعية وقضايا الإرهاب. إذ هي قضايا محل اتفاق لمكافحتها. رغم ما يثيره الإعلام (خاصة التونسي) من تنابز بغيض.
فأمام تصاعد خطر الإرهاب أعلنت تونس في العام 2013م عن إقامة حاجز ترابي ومنطقة عازلة بينها وبين ليبيا (وبينها وبين الجزائر أيضا) لحماية حدودها من تهريب السلاح وتسلل الإرهابيين.
وفي العام 2015 حفرت خندقا عازلا بطول (250) كم على حدودها مع ليبيا، مع ساتر ترابي، في وقت كانت فيه ليبيا تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني.
الآن يثير مجلس النواب التونسي نقاشات حول التأثيرات السلبية على سكان الجنوب التونسي. حيث أقيم الساتر الترابي داخل الأراضي التونسية، وحجز السكان عن أراضيهم التي مثلت لسنين مصدر رزقهم (أراض قبلية)، وقدرت –حسب روايتهم- بمائة وخمسين كيلومترا بقيت على الجانب الليبي. وقد أعرب نواب عن خشيتهم أن يصير الحاجز إلى حدود طبيعية مع الجانب الليبي.
الحديث داخل البرلمان تطور لاستدعاء وزير الدفاع التونسي الذي أبدى جاهزيته للتحرك للاطلاع على الوضع ميدانيا، واتخاذ مايلزم لأجل عدم التفريط في أي شبر من التراب التونسي.
وعقبت وزارة الخارجية الليبية في بيان لها في منتصف نوفمبر الماضي بأن ترسيم الحدود بين البلدين أغلق منذ أكثر من عقد عبر لجنة مشتركة. وغير مطروح للنقاش مجددا.
وخرج وزيرا الخارجية في البلدين في بيان مشترك أوضحا فيه أن لا خلاف حول الحدود.
يشار إلى أن الحدود التونسية الليبية تمتد بطول (459) كيلومترا، وأهم المعابر بها هو معبر رأس اجدير، ثم معبر وازن-ذهيبة. والذي أصبح البديل عند إغلاق معبر رأس اجدير.
لكن ما جعل الموضوع يتفاعل (بشغل إعلامي) هو توافق تصريح الوزير مع تصريح سابق للرئيس التونسي قيس سعيد في 2023 قال فيه إن تونس لم تحصل إلا على الفتات من “حقل البوري” النفطي مع ليبيا في البحر المتوسط.
القضية المعروفة في ليبيا باسم قضية الجرف القاري بين البلدين قضت فيها محكمة العدل الدولية لصالح ليبيا في ثمانينيات القرن الماضي.
وكانت العلاقة وقتها مقطوعة بين ليبيا القذافي وتونس أبورقيبة، والحدود مغلقة. حتى السابع من نوفمبر 1987 حين عزل الرئيس بن علي سابقه أبورقيبة عن الحكم، ثم عادت العلاقات بين ليبيا وتونس وفتحت الحدود بينهما في 1988م.
في 2011 أطاحت الثورة التونسية ببن علي، ثم أطاحت ثورة فبراير بالقذافي، وصارت العلاقات بين الشعبين والبلدين أقوى، رغم الاضطرابات الأمنية والسياسية داخل كل بلد.
وقد كان معبر رأس اجدير عنوانا غالبا في علاقات الشعبين خاصة والبلدين عموما. سواء في حركة التجارة أو المسافرين للاستشفاء والسياحة والعمل، أو حتى التهريب. وما أطلق عليه التوانسة لاحقا اسم “السياحة السياسية” مجازا. بعد أن اتخذ الفرقاء الليبيون من عاصمة تونس مسرحا للقاءاتهم وحواراتهم.
في العام 2021 شن الإعلام التونسي هجوما ضاريا على الحكومة الليبية بعد أن أمرت بغلق الحدود احترازا، في وقت تفشى فيه كورونا في تونس وأعلنت وزارة الصحة خروجه عن السيطرة.
ثم في سنة 2023، سجلت حادثة استثنائية وغريبة، إذ سرحت السلطات التونسية آلاف المهاجرين غير النظاميين عبر الحدود باتجاه ليبيا، ربما حاول الرئيس “سعيد” استخدام ورقة المهاجرين سياسيا ضد طرف ما، وكان من نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء قضوا نحبهم عطشا في المنطقة الصحراوية بين البلدين، وأنقذت السلطات الليبية من أنقذت. الغريب أن يحدث ذلك في عهد الحقوقي “قيس سعيد”!
في العام 2024 شغل معبر “رأس اجدير” الرأي العام في البلدين لأشهر، خاصة في المناطق الحدودية.
ففي مارس تبنت وزارة الداخلية تأمين المعبر، وكلفت إدارة إنفاذ القانون بالتوجه إليه، لكن القوة المتواجدة على الجانب الليبي وواجهتها بعنف، ما أدى بالداخلية التونسية إلى إغلاق المعبر من جانبها.
وبعد الداخلية التونسية بيومين أعلنت وزارة الداخلية الليبية أن المعبر سيظل مغلقا، ولن يفتح إلا بعد عودته لسيطرة الدولة وتحت سلطة القانون. وشكل وزير الداخلية “عماد الطرابلسي” قرارا بشأن تكليف غرفة أمنية مشتركة لبسط الأمن على الحدود مع تونس. الأمر الذي ضيق على سكان المناطق الحدودية في تونس معاشهم فاحتجوا.
انتقل الأمر إلى البعثة الأوروبية لإدارة الحدود “اليوبام” التي ستشرف على تجهيز المعبر وتطويره، وسيظل مغلقا حتى إشعار آخر.
وفي مايو بدأت الاجتماعات بين الجانبين الليبي والتونسي للتعاون في العمل بالمعبر. لكن المعبر لم يفتح إلا بعد مكالمة هاتفية بين الدبيبة وقيس سعيد، تطرقا فيها للمعبر، ولقضايا أخرى منها ملف السجناء والمشتبه بهم بين البلدين- وفق ما أعلن حينها.
وعند هذه النقطة برز أن هناك قضايا عالقة غير المعبر..
أعيد افتتاح المعبر في الأول من يوليو. وبعدها بأسبوعين بحث النائب العام الليبي مع وزير الداخلية التونسي التعاون القضائي واسترداد المطلوبين.
وأعلن بيان لوزارة الداخلية في منتصف أغسطس أن تونس ستدعم جهود التوصل إلى تسوية تضمن أمن ليبيا.. وأظهرت هذه التطورات القضايا العالقة أكثر.
ورأينا في الخامس والعشرين من نوفمبر لجنة ترسيم الحدود تؤكد في لقائها بالرئيس المنفي أن حدود ليبيا البرية والبحرية ثابتة وفقا للقانون الدولي.
ثم في ديسمبر توقفت حركة المسافرين عبر المعبر بحجة خلل فني في الجانب التونسي لم يفصح عنه، ثم استؤنفت الحركة سريعا. وبعدها بستة أيام أفرج عن مجموعة تونسيين موقوفين في ليبيا. وعاد المعبر
وقد سلط المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية الضوء على قضية الحدود بين البلدين والتي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، حين كانت ليبيا تحت الحكم العثماني وتونس تحت الاحتلال الفرنسي.
وحسب المركز فقد وقعت اتفاقية ترسيم الحدود بين فرنسا وتركيا في العام 1886م، وحددتها بدقة أكبر في العام 1892م.
وفي 19 مايو 1910، أُبرمت اتفاقية فرنسية-عثمانية جديدة لتحديد الحدود الحالية بين ليبيا وتونس. جرى ترسيم هذه الحدود بشكل نهائي باستخدام أعمدة حدودية، وذلك من قبل لجنة مشتركة خلال الأعوام 1910-1911.
وجاء في ورقة بحثية نشرها المركز في ديسمبر 2024 أنه “على الرغم من استقلال البلدين، لم تتمكن القيادات السياسية من التوصل إلى حل نهائي، مما دفعهما إلى اللجوء لمحكمة العدل الدولية. وقد أصدرت المحكمة حكمها لصالح ليبيا، مؤكدة سيادتها على حقل البوري النفطي”.
ويأتي هذا التطور –يقول الباحث- في وقت تعاني فيه تونس من أزمة اقتصادية خانقة، وفتح ملف الحدود البرية في هذا التوقيت يبدو مرتبطًا برغبة تونس في تحقيق مكاسب اقتصادية، مثل تنفيذ مشروع المنطقة التجارية الحرة، أو الحصول على امتيازات أو عائدات مرتبطة بحقل النفط البوري.